أنث ضمير ( جاءها ) جريا على ما تقدم من تسمية النور نارا بحسب ما لاح لموسى . وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه ، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب ، فقوله : أن بورك من في النار ومن حولها هو بعض ما اقتضاه قوله في طه : فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ; لأن معنى ( بورك ) قدس وزكي .
وفعل ( بارك ) يستعمل متعديا ، يقال : باركك الله ، أي : جعل لك بركة . وتقدم بيان معنى البركة في قوله تعالى : للذي ببكة مباركا في آل عمران ، وقوله : وبركات عليك وعلى أمم ممن معك في سورة هود . و ( أن ) تفسيرية لفعل ( نودي ) ; لأن فيه معنى القول دون حروفه ، أي : نودي بهذا الكلام .
و ( من في النار ) مراد به موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطا به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف ، فعبر عنه ب ( من في النار ) وهو نفسه .
والعدول عن ذكره بضمير الخطاب كما هو مقتضى الظاهر ، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر ; لأن في معنى صلة الموصول إيناسا له وتلطفا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم لعلي : أبا تراب وكثير التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطف به من أحواله . وهذا الكلام خبر هو بشارة قم لموسى عليه السلام ببركة النبوءة .
ومن حول النار : هو جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسه إن كان النداء بغير واسطة جبريل بل كان من لدن [ ص: 227 ] الله تعالى . فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر ( من ) الموصولة في الموضعين ، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة . وقيل : إن قوله : أن بورك من في النار إنشاء تحية من الله تعالى إلى موسى عليه السلام كما كانت تحية الملائكة لإبراهيم رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت أي : أهل هذا البيت الذي نحن فيه .
وسبحان الله رب العالمين عطف على ما نودي به موسى على صريح معناه إخبارا بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بإلهيته من أحوال المحدثات ليعلم موسى أمرين : أحدهما أن النداء وحي من الله تعالى ، والثاني أن الله منزه عما عسى أن يخطر بالبال أن جلالته في ذلك المكان . ويجوز أن يكون ( سبحان الله ) مستعملا للتعجيب من ذلك المشهد وأنه أمر عظيم من أمر الله تعالى وعنايته يقتضي تذكر تنزيهه وتقديسه .
وفي حذف متعلق التنزيه إيذان بالعموم المناسب لمصدر التنزيه وهو عموم وإنما يعلم تفصيلها بالأدلة العقلية والشرعية . الأشياء التي لا يليق إثباتها لله تعالى
فالمعنى : ونزه الله تنزيها عن كل ما لا يليق به ، ومن أول تلك الأشياء تنزيهه عن أن يكون حالا في ذلك المكان .
وإرداف اسم الجلالة بوصف ( رب العالمين ) فيه معنى التعليل للتنزيه عن شئون المحدثات ; لأنه رب العالمين فلا يشبه شأنه تعالى شئونهم .
وضمير ( إنه ) ضمير الشأن ، وجملة ( أنا الله العزيز الحكيم ) خبر عن ضمير الشأن . والمعنى : إعلامه بأن أمرا مهما يجب علمه وهو أن الله عزيز حكيم ، أي : لا يغلبه شيء ، لا يستصعب عليه تكوين .
وتقديم هذا بين يدي ما سيلقى إليه من الأمر لإحداث رباطة جأش لموسى ليعلم أنه خلعت عليه النبوءة ; إذ ألقي إليه الوحي ، ويعلم أنه سيتعرض إلى أذى وتألب عليه . وذلك كناية عن كونه سيصير رسولا ، وأن الله يؤيده وينصره على كل قوي ، وليعلم أن ما شاهد من النار وما تلقاه من الوحي وما سيشاهده من قلب العصا حية ليس بعجيب في جانب حكمة الله تعالى فتلك ثلاث كنايات فلذلك [ ص: 228 ] أتبع هذا بقوله : وألق عصاك . والمعنى : وقلنا : ألق عصاك .
والاهتزاز : الاضطراب ، وهو افتعال من الهز وهو الرفع ، كأنها تطاوع فعل هاز يهزها . والجان : ذكر الحيات ، وهو شديد الاهتزاز وجمعه جنان ( وأما الجان بمعنى واحد الجن فاسم جمعه جن ) . والتشبيه في سرعة الاضطراب ; لأن الحيات خفيفة التحرك ، وأما تشبيه العصا بالثعبان في آية فإذا هي ثعبان مبين فذلك لضخامة الجرم .
والتولي : الرجوع عن السير في طريقه . وفعل ( تولى ) مرادف فعل ( ولى ) كما هو ظاهر صنيع القاموس وإن كان مقتضى ما في فعل ( تولى ) من زيادة المبنى أن يفيد ( تولى ) زيادة في معنى الفعل . وقد قال تعالى : ثم تولى إلى الظل في سورة القصص . ولعل قصد إفادة قوة توليه لما رأى عصاه تهتز هو الداعي لتأكيد فعل ( ولى ) بقوله : مدبرا ولم يعقب فتأمل .
والإدبار : التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله ( مدبرا ) حال لازمة لفعل ( ولى ) .
والتعقب : الرجوع بعد الانصراف مشتق من العقب ; لأنه رجوع إلى جهة العقب ، أي : الخلف ، فقوله ( ولم يعقب ) تأكيد لشدة توليه ، أي : ولى توليا قويا لا تردد فيه . وكان ذلك التولي منه لتغلب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله ( أنا الله العزيز ) من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد ، إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة ، وتأصل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوهم بتعاقب الأيام .
وقوله : يا موسى لا تخف مقول قول محذوف ، أي : قلنا له . والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف ; لأن خوفه قد حصل . والخوف الحاصل لموسى عليه السلام خوف رغب من وليس خوف ذنب ، فالمعنى : لا يجبن لدي المرسلون لأني أحفظهم . انقلاب العصا حية
و إني لا يخاف لدي المرسلون تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه [ ص: 229 ] نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه . وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ علل بأن . المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى
ومعنى ( لدي ) في حضرتي ، أي : حين تلقي رسالتي . وحقيقة ( لدي ) مستحيلة على الله ; لأن حقيقتها المكان .
وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعا لما سبقه من الوحي ، وهذا تعليم لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رباطة الجأش . وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين ، وإنما هو جار على طريقة : مثلك لا يبخل . والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .
والاستثناء في قوله : ( إلا من ظلم ) ظاهره أنه متصل . ونسب ابن عطية هذا إلى مقاتل فيكون وابن جريج من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب ، أي : إلا رسولا ظلم ، أي : فرط منه ظلم ، أي : ذنب قبل اصطفائه للرسالة ، أي : صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثله في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل ، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل ( قبل أن يكون الرسول متعبدا بشرع ) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم ، موسى على القبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية ; فذلك الذي ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ، أي : تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له . واعتداء
والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه ، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فأفرغ هذا التطمين لموسى في قالب العموم تعميما للفائدة .
واستقامة نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع [ ص: 230 ] في قوله ( فإني غفور رحيم ) . فالتقدير : إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يخاف ; لأني غافر له ، وقابل لتوبته ; لأني غفور رحيم . وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة ، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبين بذلك كأنه يقول : لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولك : هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، وعزمك على الاستقامة يوم قلت : رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين .
ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدل حسنا بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم .
ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل ( ظلم ) ، ليومئ إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء : ( رب إني ظلمت نفسي ) ولذلك تعين أن يكون المقصود ب من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء موسى نفسه .
وقال الفراء والزجاج وجرى عليه كلام والزمخشري الضحاك : الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك ، فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظلم وبدل حسنا بعد سوء من الناس يغفر له . وعليه تكون ( من ) صادقة على شخص ظلم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل ، وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس . والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثبات نقيض حكم المستثنى أنه مغفور له فلا خلاف عليه . ويفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسنا بعد سوء يخاف عذاب الآخرة .
أما فزاد على ما سلكه الزمخشري الفراء فجعل ماصدق ( من ظلم ) رسولا ظلم . والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعا هو أحد الداعيين اللذين دعيا والزجاج الفراء ، وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضا لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ماصدق ( من ظلم ) رسولا من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل والزجاج موسى وهو واحد منهم .
وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله ( أي : حين [ ص: 231 ] القيام بواجبات الرسالة ) لا يخافون شيئا من المخلوقات ; لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة ، ولا يخافون الذنوب ; لأن الله تكفل لهم العصمة . ولا يخافون عقابا على الذنوب ; لأنهم لا يقربونها ، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بدل حسنا بعد سوء أمن مما يخاف من عقاب الذنوب ; لأنه تدارك ظلمه بالتوبة ، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب ، فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه . فهذه معان دل عليها الاستثناء باحتماليه ، وذلك إيجاز .
وفي تفسير ابن عطية أن أبا جعفر قرأ ( ألا من ظلم ) بفتح همزة ( ألا ) وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ، ولا تعرف نسبة هذه القراءة لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن أبي جعفر .
وفعل ( بدل ) يقتضي شيئين : مأخوذا ، ومعطى ، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ، ويتعدى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عاوض كما قال تعالى ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) ، أي : لا تأخذوا خبيث المال وتضيعوا طيبه ، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول ، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول امرئ القيس :
وبدلت قرحا داميا بعد صحة فيا لك من نعمى تبدلن أبؤسا
وكذلك قوله تعالى هنا : ثم بدل حسنا بعد سوء أي : أخذ حسنا بسوء ، فإن كلمة ( بعد ) تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتا ثم زال وخلفه غيره وكذلك ما يفيد معنى ( بعد ) كقوله تعالى : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة .