وامرأة فرعون سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبيء صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنة عمران وآسية امرأة فرعون ويفيد قولها ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره ؛ فلذلك أنذرته امرأته بقولها قرة عين لي ولك لا تقتلوه .
وارتفع قرة عين على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا الطفل . وحذفه ؛ لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف ، أي هو سبب قرة عين لي ولك .
وقرة العين كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سخنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن ، فلما كني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء : أسخن الله عينه . وقول الراجز :
أوه أديم عرضه وأسخن بعينه بعد هجوع الأعين
أتبعوا ذلك بأن كنوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا : قرة عين ، وأقر الله عينه ، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنى به العرب عن ذلك وهو قرة عين ، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى وألقيت عليك محبة مني .ويجوز أن يكون قوله قرة عين قسما كما يقال : أيمن الله . فإن العرب يقسمون بذلك ، أي أقسم بما تقر به عيني . وفي الحديث الصحيح أن أبا بكر الصديق استضاف نفرا وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر ، وفيه قصة إلى أن قال الراوي : فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها . فقال أبو بكر لامرأته : يا أخت بني فراس ما هذا ؟ فقالت : وقرة عيني إنها الآن أكثر من قبل . فتكون امرأة فرعون أقسمت على فرعون بما فيه قرة عينها ، وقرة عينه أن لا يقتل موسى ، ويكون رفع قرة عين على الابتداء وخبره محذوفا ، وهو حذف [ ص: 79 ] كثير في نص اليمين مثل : لعمرك . وابتدأت بنفسها في قرة عين لي قبل ذكر فرعون إدلالا عليه لمكانتها عنده أرادت أن تبتدره بذلك حتى لا يصدر عنه الأمر بقتل الطفل .
وضمير الجمع في قولها لا تقتلوه يجوز أن يراد به فرعون نزلته منزلة الجماعة على وجه التعظيم كما في قوله قال رب ارجعون . ويجوز أن يراد به خطاب فرعون داخلا فيه أهل دولته هامان والكهنة الذين ألقوا في نفس فرعون أن فتى من إسرائيل يفسد عليه مملكته . وهذا أحسن ؛ لأن فيه تمهيدا لإجابة سؤلها حين أسندت معظم القتل لأهل الدولة وجعلت لفرعون منه حظ الواحد من الجماعة ، فكأنها تعرض بأن ذلك ينبغي أن لا يكون عن رأيه فتهون عليه عدوله في هذا الطفل ، عما تقرر من قتل الأطفال . وقيل لا تقتلوه التفات عن خطاب فرعون إلى خطاب الموكلين بقتل أطفال إسرائيل كقوله يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك .
فموقع جملة قرة عين لي ولك موقع التمهيد والمقدمة للعرض . وموقع جملة لا تقتلوه موقع التفريع عن المقدمة ولذلك فصلت عنها .
وأما جملة عسى أن ينفعنا فهي في موقع العلة لمضمون جملة لا تقتلوه فاتصالها بها كاتصال جملة قرة عين لي ولك بها ، ولكن نظم الكلام قضى بهذا الترتيب البليغ بأن جعل الوازع الطبيعي عن القتل وهو وازع المحبة هو المقدمة ؛ لأنه أشد تعلقا بالنفس فهو يشبه المعلوم البديهي . وجعل الوازع العقلي بعد النهي علة لاحتياجه إلى الفكر ، فتكون مهلة التفكير بعد سماع النهي الممهد بالوازع الطبيعي فلا يخشى جماح السامع من النهي ورفضه إياه .
ويتضمن قولها عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا إزالة ما خامر نفس فرعون من خشية فساد ملكه على يد فتى إسرائيلي بأن هذا الطفل لا يكون هو المخوف منه ؛ لأنه لما انضم في أهلهم وسيكون ربيهم فإنه يرجى منه نفعهم وأن يكون لهم كالولد . فأقنعت فرعون بقياس على الأحوال المجربة في علاقة التربية والمعاشرة والتبني والإحسان ، وإن الخير لا يأتي بالشر . ولذلك وقع بعده الاعتراض بقوله تعالى وهم لا يشعرون أي وفرعون وقومه لا يعلمون خفي إرادة الله من [ ص: 80 ] الانتقام من أمة القبط بسبب موسى . ولعل الله حقق لامرأة فرعون رجاءها فكان موسى قرة عين لها ولزوجها ، فلما هلكا وجاء فرعون آخر بعدهما كان ما قدره الله من نصر بني إسرائيل .
واختير يشعرون هنا ؛ لأنه من العلم الخفي ، أي لا يعلمون هذا الأمر الخفي .


