أعقب تهديدهم على الإلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعرضة لأن يكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه ، فلهذه الجملة اتصال في المعنى بجملة إن الذين يلحدون في آياتنا واتصال في الموقع بجملة اعملوا ما شئتم .
[ ص: 306 ] وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين ، وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي موقع أجزائها من تصريح وتقدير .
فجعل صاحب الكشاف قوله إن الذين كفروا بالذكر بدلا من قوله إن الذين يلحدون في آياتنا ، وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلا مطابقا أو بدل اشتمال ، وأنه بتكرير العامل وهو حرف ( إن ) وإن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهور إلا في حرف الجر كما قال الرضي ، فكلام في المفصل يقتضي الإطلاق ، وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر . الزمخشري
وعلى هذا القول لا يقدر خبر ؛ لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله لا يخفون علينا .
وعن ، أبي عمرو بن العلاء ، والكسائي ما يقتضي أنهم يجعلون جملة وعمرو بن عبيد إن الذين كفروا بالذكر جملة مستقلة ؛ لأنهم جعلوا لـ ( إن ) خبرا . فأما أبو عمرو فقال : خبر إن قوله أولئك ينادون من مكان بعيد .
حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس عن خبر إن فقال : لم أجد لها نفاذا ، فقال له أبي عمرو بن العلاء أبو عمرو : إنه منك لقريب أولئك ينادون من مكان بعيد ، وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم إن وخبرها جملا معترضة وهي نحو سبع . وأما ، الكسائي فقدروا خبرا لاسم إن فقال وعمرو بن عبيد : الخبر محذوف دل عليه قوله قبله الكسائي أفمن يلقى في النار خير ، فنقدر الخبر : يلقون في النار ، مثلا . وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن الخبر ، فقال : عمرو : معناه أن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز . فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان . ويجيء على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلا من جملة إن الذين يلحدون في آياتنا بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله في آياتنا مطلق الآيات ، أو بدلا مطابقا إن أريد بالآيات آيات القرآن .
وقيل الخبر قوله ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من ، أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم ، أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم [ ص: 307 ] للرسل من قبلك ، وما بينهما اعتراض .
والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله ، وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم : سحر ، وشعر ، وقول كاهن ، وقول مجنون ولو نشاء لقلنا مثل هذا ، وأساطير الأولين ، وقلوبنا في أكنة ، وفي آذاننا وقر .
والأظهر أن تكون جملة إن الذين كفروا بالذكر إلخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله لا يخفون علينا ، والمعنى : لأنهم جديرون بالعقوبة إذ كفروا بالآيات ، وهي آية القرآن بالحق ، وبشهادة ما أوصي إلى الرسل من قبله .
وموقع إن موقع فاء التعليل . وخبر إن محذوف دل عليه سياق الكلام .
والأحسن أن يكون تقديره بما يدل عليه جملة الحال من جلالة الذكر ونفاسته ، فيكون التقدير : خسروا الدنيا والآخرة ، أو سفهوا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ ، ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل ، وحذف خبر " إن " إذا دل عليه دليل وارد في الكلام أجازه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الأحرف الخمسة ، وتبعه الجمهور ، وخالفه سيبويه الفراء فشرطه بتكرر " إن " ، ومن الحذف قوله تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الآية في سورة الحج ، وأنشد : سيبويه
يا ليت أيام الصبا رواجعا
إذ روي بنصب رواجعا على الحال فلم يذكر خبر ليت .وذكر أن العرب يقولون " إن مالا وإن ولدا " أي إن لهم ، وقول الأعشى :
إن محلا وإن مرتحلا
[ ص: 308 ] أي أن لنا في الدنيا حلولا ولنا عنها مرتحلا ، إذ ليس بقية البيت وهو قوله :وإن في السفر إذ مضوا مهلا
ما يصح وقوعه خبرا عن " إن " الأولى . وقال جميل :وقالوا نراها يا جميل تنكرت وغيرها الواشي ، فقلت لعلها
وجملة وإنه لكتاب إلخ في موضع الحال من الذكر ، أي كفروا به في حاله هذا ، ويجوز أن تكون الجملة عطفا على جملة إن الذين كفروا بالذكر على تقدير خبر إن المحذوف .
وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم : الوصف الأول : أنه ذكر ، أي يذكر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم .
الوصف الثاني من معنى الذكر : أنه ذكر للعرب وسمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وفي قوله لما جاءهم إشارة إلى هذا المعنى الثاني .
الوصف الثالث : أنه كتاب عزيز ، والعزيز النفيس ، وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفيس يدافع عنه ويحمى عن النبذ فإنه بين الإتقان وعلو المعاني ووضوح الحجة ، ومثل ذلك يكون عزيزا ، والعزيز أيضا : الذي يغلب ولا يغلب ، وكذلك حجج القرآن .
[ ص: 309 ] الوصف الرابع : أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحه ولا ضمنيه ، أي لا يشتمل على الباطل بحال . فمثل ذلك بـ من بين يديه ومن خلفه ، والمقصود استيعاب الجهات تمثيلا لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صده خاتله فأتاه من خلفه ، وقد تقدم في قوله تعالى ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم .
فمعنى لا يأتيه الباطل لا يوجد فيه ولا يداخله ، وليس المراد أنه لا يدعى عليه الباطل .
الوصف الخامس : أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقية لأنه تنزيل من حكيم ، ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فإن كلام الحكيم يأتي محكما متقنا رصينا لا يشوبه الباطل .
الوصف السادس : أنه تنزيل من حميد ، والحميد هو المحمود حمدا كثيرا ، أي مستحق الحمد الكثير ، فالكلام المنزل منه يستحق الحمد ، وإنما يحمد الكلام إذ يكون دليلا للخيرات وسائقا إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه ، فيحمده سامعه كثيرا ؛ لأنه يجده مجلبة للخير الكثير ، ويحمد قائله لا محالة خلافا للمشركين .
وفي إجراء هذه الأوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه ، فقال وإنه لكتاب عزيز الآيات .