نظم القرآن أهم أصول حفظ مال الأمة في سلك هاته الآيات ، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغنى ففرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة ، أو تطوعا وهو الصدقة ، فأطنب في الحث عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير في إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتعظ ، عطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم [ ص: 79 ] وهي المعاملة بالربا الذي لقبه النبيء - صلى الله عليه وسلم - ربا الجاهلية ، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حل الأجل ولم يدفع زاد في الدين ، يقولون : إما أن تقضي وإما أن تربي ، وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية ، كذا قال الفقهاء ، والظاهر أنهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلامه ، وكلما طلب النظرة أعطى ربا آخر ، وربما تسامح بعضهم في ذلك ، وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة الوداع : ألا وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي عباس بن عبد المطلب .
وجملة الذين يأكلون الربا استئناف . وجيء بالموصول للدلالة على علة بناء الخبر وهو قوله : لا يقومون إلى آخره .
والأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وأصله تمثيل ، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا : أكل مال الناس إن الذين يأكلون أموال اليتامى ولا تأكلوا أموالكم ولا يختص بأخذ الباطل . ففي القرآن فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا .
والربا : اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين ، لعلهم خففوه من الرباء - بالمد - فصيروه اسم مصدر لفعل ربا الشيء يربو ربوا بسكون الباء على القياس كما في الصحاح وبضم الراء والباء كعلو ، ورباء بكسر الراء وبالمد مثل الرماء : إذا زاد . قال تعالى : فلا يربو عند الله وقال : اهتزت وربت ولكونه من ذوات الواو ثني على ربوان ، وكتب بالألف ، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ، ثم ثنوه بالياء لأجل الكسرة أيضا ، قال الزجاج : ما رأيت خطأ أشنع من هذا ، ألا يكفيهم الخطأ في الخط حتى أخطأوا في التثنية كيف وهم يقرءون وما آتيتم من ربا ليربو بفتحة على الواو في أموال الناس يشير إلى قراءة عاصم والأعمش ، وهما كوفيان ، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة .
[ ص: 80 ] وكتب الربا في المصحف حيثما وقع بعدها بواو بعدها ألف ، والشأن أن يكتب ألفا ، فقال صاحب الكشاف : كتبت كذلك على لغة من يفخم أي ينحو بالألف منحى الواو ، والتفخيم عكس الإمالة ، وهذا بعيد ، إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف ، وقال المبرد : كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا ، وهو أبعد لأن سياق الكلام لا يترك اشتباها بينهما من جهة المعنى إلا في قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا وقال الفراء : إن العرب تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا : ربو - بواو ساكنة - فكتبت كذلك ، وهذا أبعد من الجميع .
والذي عندي أن الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات ، وكأنهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطرد في رسمهم ، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو ، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيها على أن أصلها هو الركوع من تحريك الصلوين لا من الاصطلاء ، وقال صاحب الكشاف : وكتبوا بعدها ألفا تشبيها بواو الجمع ، وعندي أن هذا لا معنى للتعليل به ، بل إنما كتبوا الألف بعدها عوضا عن أن يضعوا الألف فوق الواو ، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفا فوق الياء لئلا يقرأها الناس الربو .
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية ، لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلا التوجه إليهم لأن ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم ، أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في سورة آل عمران ، وهم لا يقولون إنما البيع مثل الربا ، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأجل ما تفرع عن كفرهم من وضع الربا .
وتقدم ذلك كله إنكار القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة ، فقد جاء في سورة الروم وما آتيتم من ربا لتربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ ص: 81 ] وهو خطاب للمشركين لأن السورة مكية ولأن بعد الآية قوله الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء .
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفار إغلاظا عليهم ، وتعريضا بتخويف المسلمين ليكره إياهم أحوال أهل الكفر ، وقد قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام ، ولذلك قال الله تعالى : ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى : والله لا يحب كل كفار أثيم .
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله الآيات ، ولعل بعض المسلمين لم ينكف عن تعاطي الربا أو لعل بعضهم فتن بقول الكفار : إنما البيع مثل الربا ، فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبيانا لكيفية تدارك ما سلف منه .
والربا يقع على وجهين : أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف ، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل ، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل .
وقوله : لا يقومون حقيقة القيام النهوض والاستقلال ، ويطلق مجازا على تحسن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك : قامت السوق ، وقامت الحرب ، فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، أي : إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان ، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم ، قالهابن عطية ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة ، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا ، فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وهي على المعنى المجازي [ ص: 82 ] تشنيع ، أو توعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .
والتخبط مطاوع ( خبطه ) : إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له ، أي : تحرك تحركا شديدا ، ولما كان من لازم هذا التحرك عدم الاتساق ، أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق ، ثم إنهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعديا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعوضا عن أن يقولوا خبطه فتخبط يقولون : تخبطه . كما قالوا : اضطره إلى كذا . فتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطا ، أي : متحركا على غير اتساق .
والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع ، فيضطرب به اضطرابات ، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام ، فلما شبهت الهيئة بالهيئة جيء في لفظ الهيئة المشبه بها ، بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم ، وإلا لما فهمت الهيئة المشبه بها ، وقد عرف ذلك عندهم ، قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير ، بعد أن سارت ليلا كاملا :
وتصبح عن غب السرى وكأنها ألم بها من طائف الجن أولق
والمس في الأصل هو اللمس باليد كقولها : المس مس أرنب ، وهو إذا أطلق معرفا بدون عهد مس معروف دل عندهم على مس الجن ، فيقولون : رجل ممسوس أي مجنون ، وإنما احتيج إلى زيادة قوله من المس ليظهر المراد من تخبط الشيطان فلا يظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة و " من " ابتدائية متعلقة بـ " يتخبطه " لا محالة .وهذا عند المعتزلة جار على ما عهده العربي مثل قوله طلعها كأنه رءوس الشياطين وقول امرئ القيس :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال .
إلا أن هذا مشاهد وعلته متخيلة ، والآخران متخيلان لأنهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة ، وعندنا هو أيضا مبني على تخييلهم والصرع إنما يكون من علل [ ص: 83 ] تعتري الجسم مثل فيضان المرة عند الأطباء المتقدمين وتشنج المجموع العصبي عند المتأخرين ، إلا أنه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلها تنشأ في الأصل من توجهات شيطانية ، فإن عوالم المجردات - كالأرواح - لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعل لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد .
وقوله : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا الإشارة إلى كما يقوم لأن ( ما ) مصدرية والباء سببية .
والمحكي عنهم بقوله : قالوا إنما البيع مثل الربا إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة ، ظنوا بسوء فهمهم أن تحريم الربا اضطراب في حين تحليل البيع ، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم ، إذ يتعذر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام ، وإن كان قولا حاليا بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا ، فهو استعارة ، ويجوز أن يكون ( قالوا ) مجازا ; لأن اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل ، فأطلق القول وأريد لازمه وهو الاعتقاد به .
وقولهم : إنما البيع مثل الربا قصر إضافي للرد على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولما صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال : البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع . ولا يقال : إن الظاهر أن يقولوا إنما الربا مثل البيع لأنه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة ، لأنا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسماة في الأصول بقياس العكس ، لأن قياس العكس إنما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة ، لا في وقت استنباط المجتهد في خاصة نفسه .
[ ص: 84 ] وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله .
وقوله : وأحل الله البيع وحرم الربا من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين ، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممن تشملهم أحكام الإسلام ، وهو إقناع للمسلمين بأن ما قاله الكفار هو شبهة محضة ، وأن الله العليم قد حرم هذا وأباح ذاك ، وما ذلك إلا حكمة وفروق معتبرة لو تدبرها أهل التدبر لأدركوا الفرق بين البيع والربا ، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو مما وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين ، مع أن ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة .
واعلم أن مبنى شبهة القائلين إنما البيع مثل الربا أن التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنه يرجعها له أحد عشر درهما ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه ; لأن المقرض تصدى لإقراضه وأعد ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله .
وكشف هاته الشبهة قد تصدى له القفال فقال : من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يقال إن الزائد عوض الإمهال ؛ لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة . ومرجع هذه التفرقة إلى أنها مجرد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة .
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا ، حاصلها أن الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به ، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرواج والربح ، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنه لم يحصل [ ص: 85 ] منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه . ولا يقال : إنه يستطيع أن يتجر به فيربح لأن هذه منفعة موهومة غير محققة الحصول ، مع أن أخذ الزائد أمر محقق على كل تقدير .
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال ، لكنها يرد عليها أن انتفاع المقترض بالمال فيه سد حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة ، وأما تصديه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها .
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعها إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنهم كانوا يعدون التداين هما وكربا ، وقد استعاذ منه النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحال التاجر حال التفضل ، وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا ؛ لأن المستسلف مظنة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال ، فالتجارة معاملة بين غنيين ، ألا ترى أن كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه ، فالمتسلف مظنة الفقر ، والمشتري مظنة الغنى ، فلذلك حرم الربا لأنه استغلال لحاجة الفقير وأحل البيع لأنه إعانة لطالب الحاجات ، فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف ، وأنها مؤكدة التعين على المواسي وجوبا أو ندبا ، وأيا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف ، فأما الذي يستقرض مالا ليتجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال ، فإذا أقرضه فقد تطوع بمعروف ، وكفى بهذا تفرقة بين الحالين .
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة : أولها أن فيه أخذ مال بغير عوض ، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع ، وهو فرق غير وجيه .
[ ص: 86 ] الثاني : أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب ؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق ؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة .
الثالث : أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض .
الرابع : أن الغالب في المقرض أن يكون غنيا وفي المستقرض أن يكون فقيرا ، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف .
وقد أشرنا فيما مر في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة من سورة آل عمران .
هذا وقد تعرضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا ، لأنها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه .
و " ال " في كل من ( البيع والربا ) لتعريف الجنس ، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس ، محتاج إليهما فيها : أحدهما يسمى بيعا والآخر يسمى ربا ، أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة ، وثانيهما محرم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة .
وظاهر تعريف الجنس أن الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده ، وأنه حرم الربا بجنسه كذلك ، ولما كان معنى أحل الله البيع : أذن فيه . كان في قوة قضية موجبة فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة ، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامها في نحو ( الحمد لله ) فبقي محتملا شمول الحل لسائر أفراد البيع ، ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبعت الشريعة أسباب تحريمه ، فتعطل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية .
أما معنى قوله : وحرم الربا فهو في حكم المنفي لأن ( حرم ) في معنى منع ، فكان مقتضيا استغراق جنس الربا بالصيغة ; إذ لا يطرأ عليه ما يصيره حلالا .
ثم اختلف علماء الإسلام في أن لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة ، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع .
[ ص: 87 ] فذهب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية ، أعني الزيادة لأجل التأخير ، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة : إنما الربا في النسيئة ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة ، قال الفخر : ولعله لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد ، يعني أنه حمل أحل الله البيع على عمومه .
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أن الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة ، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت ، بل رأى عمر أن لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبين جميع المراد منه ، فكأنه عنده مما يشبه المجمل ، فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنه قال : كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها ، وإنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا ، ولأن أكون أعلمها أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها . قال ابن رشد : ولم يرد عمر بذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفسر آية الربا ، وإنما أراد - والله أعلم - أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها ، وقال ابن العربي : بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنى الربا في ستة وخمسين حديثا .
والوجه عندي أن ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل لأنه قابله بالبيان وبالتفسير بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمه النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالتنصيص ، لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية ، فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير ، وذكر ابن العربي في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان ، وفي تفسير الفخر عن الشافعي أن قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، أي بعموميها : عموم البيع وعموم الربا ، لأنه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أي بيع وأي زيادة ، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرم الجميع ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام ، والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام ، وأصولها ستة أحاديث : [ ص: 88 ] الحديث الأول : حديث أبي سعيد الخدري : الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، الآخذ والمعطي في ذلك سواء .
الثاني حديث عبادة بن الصامت الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد والتمر بالتمر مدا بمد والملح بالملح مدا بمد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب أكثرهما يدا بيد ، وأما النسيئة فلا ، رواه أبو داود ، فسماه في هذين الحديثين ربا .
الثالث : حديث أبي سعيد : أن بلالا جاء إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني ، فقال له : من أين هذا ؟ فقال بلال : تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لطعم النبيء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوه ، عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا فسمى التفاضل ربا .
الرابع حديث الموطأ والبخاري عن أبي سعيد وأبي هريرة أن سواد بن غزية جاء من خيبر بتمر جنيب فقال له النبيء - صلى الله عليه وسلم - : أكل تمر خيبر هكذا ؟ فقال : يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا .
الخامس : حديث عائشة في صحيح البخاري : قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبيء ثم حرم التجارة في الخمر ، فظاهره أن تحريم التجارة في الخمر كان عملا بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنما هو بيع فاسد .
السادس : حديث الدارقطني - ورواه ابن وهب عن مالك - أن العالية بنت أينع وفدت إلى المدينة من الكوفة ، فلقيت عائشة فأخبرتها أنها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم إن زيدا باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقدا ، فقالت لها عائشة : بئسما شريت وما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه [ ص: 89 ] قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب . قالت : فقلت لها : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ قالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف . فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية .
فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع : الأول : ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير .
الثاني : ربا الفضل وهو زيادة أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت .
الثالث : ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخرا ، وزاد المالكية نوعا رابعا : وهو ما يئول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيل على الربا ، وترجمه في المدونة ببيوع الآجال ، ودليل مالك فيه حديث العالية ، ومن العلماء من زعم أن لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث عائشة في تحريم تجارة الخمر ، وإليه مال ابن العربي .
وعندي أن أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس ، وأن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة : إنما الربا في النسيئة . ليجمع بين الحديثين . وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة بن الصامت دليل على ما قلناه ، وأن ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن ، وما عداه إغراق في الاحتياط ، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في الموطأ وغيره أن انتفاء التهمة لا يبطل العقد .
ولا متمسك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأن المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية ، فكان حالهم مقتضيا لسد الذرائع .
وفي تفسير القرطبي : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا إنما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من ذهب ، فأمر معاوية رجالا ببيعها في أعطيات الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقام فقال [ ص: 90 ] سمعت رسول الله ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين ، من زاد وازداد فقد أربى ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال : ألا ما بال أقوام يتحدثون عن رسول الله أحاديث كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ؟ فقال عبادة بن الصامت : لنحدثن بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية .
والظاهر أن الآية لم يقصد منها إلا ربا الجاهلية ، وأن ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مندرجة في أدلة أخرى .
وقوله : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى الآية . تفريع على الوعيد في قوله الذين يأكلون الربا .
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، أي : من علم هذا الوعيد . وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه ، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران .
والانتهاء مطاوع نهاه : إذا صده عما لا يليق ، وكأنه مشتق من النهى - بضم النون - وهو العقل ، ومعنى فله ما سلف أي : ما سلف قبضه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يقبض ، بقرينة قوله الآتي : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم .
وقوله : وأمره إلى الله فرضوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى ( من جاءه ) وبعضها إلى رجوعه إلى ( ما سلف ) والأظهر أنه راجع إلى ( من جاءه ) لأنه المقصود ، وأن معنى وأمره إلى الله ، أن أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى ، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم ، فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله : ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
وجعل العائد خالدا في النار إما لأن المراد العود إلى قوله إنما البيع مثل الربا أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق ، فإن كثيرا منهم قد شق عليهم ترك التعامل بالربا ، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم ، فالخلود على حقيقته ، وإما لأن المراد العود إلى المعاملة بالربا ، وهو الظاهر من مقابلته بقوله : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى والخلود : طول المكث كقول لبيد :
    فوقفت أسألها وكيف سؤالنا 
صما خوالد ما يبين كلامها 
[ ص: 91 ] وتمسك بظاهر هذه الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها ، وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن ، إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر ، ولا بد من الجمع بين أدلة الكتاب والسنة .
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					