[ ص: 129 ] وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير لله ما في السماوات وما في الأرض .
تعليل واستدلال على مضمون جملة : والله بما تعملون عليم وعلى ما تقدم آنفا من نحو : والله بكل شيء عليم والله بما تعملون عليم والله بما تعملون بصير والله بما تعملون خبير فإذا كان ذلك تعريضا بالوعد والوعيد ، فقد جاء هذا الكلام تصريحا واستدلالا عليه ، فجملة : وإن تبدوا ما في أنفسكم إلى آخرها هي محط التصريح ، وهي المقصود بالكلام ، وهي معطوفة على جملة : ولا تكتموا الشهادة إلى والله بما تعملون عليم وجملة لله ما في السماوات وما في الأرض هي موقع الاستدلال ، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين ، أو علة لجملة والله بما تعملون عليم باعتبار إرادة الوعيد والوعد ، فالمعنى أنكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه ، وعلى هذا الوجه تكون جملة : وإن تبدوا ما في أنفسكم معطوفة على جملة لله ما في السماوات وما في الأرض عطف جملة على جملة ، والمعنى : إنكم عبيده ، وهو محاسبكم . ونظيرها في المعنى قوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق ولا يخالف بينهما إلا أسلوب نظم الكلام .
ومعنى الاستدلال هنا : أن الناس قد علموا أن الله رب السماوات والأرض ، وخالق الخلق ، فإذا كان ما في السماوات والأرض لله ، مخلوقا له ، لزم أن يكون جميع ذلك معلوما له ؛ لأنه مكون ضمائرهم وخواطرهم ، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية ; لأنه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلا عن خالقه ، ومالكية الله تعالى أتم أنواع الملك على الحقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى ، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه واجب الوجود من صفات الكمال ، فقوله : لله ما في السماوات وما في الأرض تمهيد لقوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية .
[ ص: 130 ] وعطف قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم بالواو دون الفاء للدلالة على أن الحكم الذي تضمنه مقصود بالذات ، وأن ما قبله كالتمهيد له ، ويجوز أن يكون قوله : وإن تبدوا عطفا على قوله والله بما تعملون عليم ويكون قوله : لله ما في السماوات وما في الأرض اعتراضا بينهما .
وإبداء ما في النفس : إظهاره ، وهو إعلانه بالقول ، فيما سبيله القول وبالعمل فيما يترتب عليه عمل ، وإخفاؤه بخلاف ذلك ، وعطف " أو تخفوه " للترقي في الحساب عليه ، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف ، في الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات ، و ( ما ) في النفي يعم الخير والشر .
والمحاسبة مشتقة من الحسبان وهو العد ، فمعنى ( يحاسبكم ) في أصل اللغة : يعده عليكم . إلا أنه شاع إطلاقه على لازم المعنى ، وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى إن حسابهم إلا على ربي وشاع هذا في اصطلاح الشرع ، ويوضحه هنا قوله : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) .
وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة : ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء ، فلا يقصروا في اتباع الخيرات النفسية والعملية ، إلا أنه أثبت غفرانا وتعذيبا بوجه الإجمال على كل مما نبديه وما نخفيه ، وللعلماء في معنى هذه الآية والجمع بينها وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - وقوله : من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي إن الله تجاوز لأمتي عما حدثتها به أنفسها المازري وعياض ، في شرحيهما لصحيح مسلم ، وهو - مع زيادة بيان - : أن ما يخطر في النفس إن كان مجرد خاطر وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه ، وهو مورد حديث ، وإن كان قد جاش في النفس عزم ؛ فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعال بدنية أو لا ، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال ، مثل الإيمان ، والكفر ، والحسد ، فلا خلاف في المؤاخذة به ; لأنه مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه ، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثار في الخارج ، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال ؛ كمن يعزم على السرقة [ ص: 131 ] فيسرق ، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارا لغير مانع منعه ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان : أي إن قوله تعالى : من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة يحاسبكم به الله محمول على معنى يجازيكم . وأنه مجمل تبينه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة ، وإن من سمى ذلك نسخا من السلف فإنما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية ، فأطلق النسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدمين . وهذه الأحاديث وما دلت عليه دلائل قواعد الشريعة ، هي البيان لـ ( من يشاء ) في قوله تعالى : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) .
وفي صحيح عن البخاري : أن هذه الآية نسخت بالتي بعدها ، أي بقوله : ابن عباس لا يكلف الله نفسا إلا وسعها كما سيأتي هنالك .
وقد تبين بهذا أن المشيئة هنا مترتبة على أحوال المبدى والمخفى ، كما هو بين .
وقرأ الجمهور : " فيغفر " " ويعذب " بالجزم ، عطفا على ( يحاسبكم ) وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، بالرفع على الاستئناف بتقدير " فهو يغفر " ، وهما وجهان فصيحان ، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ .
وقوله : والله على كل شيء قدير تذييل لما دل على عموم العلم ، بما يدل على عموم القدرة .