يجوز أن يكون في موضع خبر من مبتدأ محذوف ، أي : هي كمثل غيث فتكون الجملة استئنافا ، وحذف المسند إليه من النوع الذي سماه السكاكي " متابعة الاستعمال " .
ويجوز أن يكون الكاف في موضع الحال و " كمثل " معناه كحال ، أي : حال الحياة الدنيا كحال غيث إلخ ، فشبهت هيئة أهل الدنيا في أحوالهم الغالبة عليهم والمشار إلى تنويعها بقوله " لعب ولهو " إلى آخره بهيئة غيث أنبت زرعا فأينع ثم اصفر ثم اضمحل وتحطم ، أي : تشبيه هيئة هذه الأحوال الغالبة على الناس في الحياة في كونها محبوبة للناس مزهية لهم وفي سرعة تقضيها بهيئة نبات جديد أنبته غيث فاستوى واكتمل وأعجب به من رآه فمضت عليه مدة فيبس وتحطم .
والمقصود بالتمثيل هو النبات ، وإنما ابتدئ بغيث تصويغا للهيئة من مبادئها لإظهار مواقع الحسن فيها لأن ذلك يكتسب منه المشبه حسنا كما فعل كعب بن زهير في تحسين أوصاف الماء الذي مزجت به الراح في قوله :
شجت بذي شبم من ماء محنية صاف بأبطح أضحى وهو مشمول تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه
من صوب سارية بيض يعاليل
والنبات : اسم مصدر نبت قال تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا ، وهو هنا أطلق على النابت من إطلاق المصدر على الفاعل وهو كثير ، وأصله أن يراد به المبالغة ، وقد يشيع فيزول قصد المبالغة به .
وقوله " ثم يهيج " تضافرت كلمات المفسرين على تفسير يهيج بـ ( ييبس ) أو يجف ، ولم يستظهروا بشاهد من كلام العرب يدل على أن من معاني الهياج الجفاف ، وقد قال الراغب : يقال : هاج البقل ، إذا اصفر وطاب ، وفي الأساس : من المجاز هاج البقل ، إذا أخذ في اليبس . وهذان الإمامان لم يجعلا ( هاج ) بمعنى ( يبس ) وكيف لفظ الآية ثم يهيج فتراه مصفرا ، فالوجه أن الهياج : الغلظ ومقاربة اليبس ، لأن مادة الهياج تدل على الاضطراب والثوران وسميت الحرب الهيجاء ، وقال النابغة :
أهاجك من سعداك مغنى المعاهد
والزرع إذا غلظ يكون لحركته صوت فكأنه هائج ، أي : ثائر وذلك ابتداء جفافه ، وذلك كقوله تعالى كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع في سورة الفتح .وعطفت جملة " يهيج " بـ ( ثم ) لإفادة التراخي الرتبي لأن اصفرار النبات أعظم دلالة على التهيؤ للزوال ، وهذا هو الأهم في مقام التزهيد في متاع الدنيا .
وعطف " فتراه مصفرا " بالفاء لأن اصفرار النبت مقارب ليبسه ، وعطف ثم يكون حطاما بـ ( ثم ) كعطف " ثم يهيج " .
والحطام : بضم الحاء ما حطم ، أي : كسر قطعا .
فضرب مثل الحياة الدنيا لأطوار ما فيها من شباب وكهولة وهرم ففناء ، ومن جدة وتبذل وبلى ، ومن إقبال الأمور في زمن إقبالها ثم إدبارها بعد ذلك ، بأطوار الزرع . وكلها أعراض زائلة وآخرها فناء .
[ ص: 406 ] وتندرج فيها أطوار المرء في الحياة المذكورة في قوله " لعب ولهو " إلى " والأولاد " كما يظهر بالتأمل .
وهذا التمثيل مع كونه تشبيه هيئة مركبة بهيئة مثلها هو صالح للتفريق ، ومقابلة أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها ، فيشبه أول أطوار الحياة وإقبالها بالنبات عقب المطر ، ويشبه الناس المنتفعين بإقبال الدنيا بناس زراع ، ويشبه اكتمال أحوال الحياة وقوة الكهولة بهياج الزرع ، ويشبه ابتداء الشيخوخة ثم الهرم وابتداء ضعف عمل العامل وتجارة التاجر وفلاحة الفلاح باصفرار الزرع وتهيئه للفناء ، ويشبه زوال ما كان للمرء من قوة ومال بتحطم الزرع .
ويفهم من هذا أن ما كان من أحوال الحياة مقصودا لوجه الله فإنه من شئون الآخرة فلا يدخل تحت هذا التمثيل إلا ظاهرا . فأعمال البر ودراسة العلم ونحو ذلك لا يعتريها نقص ما دام صاحبها مقبلا عليها ، وبعضها يزداد نماء بطول المدة ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الزمر .