ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولا يامركم أن تتخذوا الملائكة والنبيئين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
اعتراض واستطراد : فإنه لما ذكر لي اليهود ألسنتهم بالتوراة ، وهو ضرب من التحريف ، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر تقول عيسى عليه السلام ، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك ، ردا على النصارى ، فيكون رجوعا إلى الغرض الذي في قوله قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء إلى قوله بأنا مسلمون .
وفي الكشاف قيل نزلت لأن رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك . قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيئكم واعرفوا الحق لأهله . قلت أخرجه عن عبد بن حميد الحسن ، فعلى تقدير كونه حديثا مقبولا فمناسبة ذكر هذه الآية هنا أنها قصد منها الرد على جميع هذه المعتقدات . ووقع في أسباب النزول للواحدي من رواية الكلبي ، عن : أن ابن عباس أبا رافع اليهودي والسيد من نصارى نجران قالا يا محمد أتريد أن نعبدك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ الله أن يعبد غير الله ونزلت هذه الآية .
وقوله ما كان لبشر نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق . وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فلان فاعلا كذا ، فلما أريدت المبالغة في النفي [ ص: 294 ] عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس ، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لحمل اسم ذات على اسم ذات إلا بواسطة بعض الحروف ، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل ، ويقال أيضا : ليس له أن يفعل ، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى .
فمعنى الآية : ليس قول كونوا عبادا لي حقا لبشر أي بشر كان . وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي نحو وما كان الله ليعذبهم ، فتراكيب لام الجحود كلها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي ، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولا لأجل فعل كذا ، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحودا .
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة ، ولكن قد علم أن مصب النفي هو المعطوف من قوله ثم يقول للناس كونوا عبادا لي أي ما كان له أن يقول كونوا عبادا لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ .
والعباد جمع عبد كالعبيد ، وقال ابن عطية : الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير ، والعبيد يقصد منه ، ولذلك قال تعالى : يا عبادي وسمت العرب طوائف من العرب سكنوا الحيرة ودخلوا تحت حكم كسرى بالعباد ، وقيل لأنهم تنصروا فسموهم بالعباد ، بخلاف جمعه على عبيد كقولهم : هم عبيد العصا ، وقال : هل أنتم إلا عبيد لأبي ومنه قوله تعالى حمزة بن المطلب وما ربك بظلام للعبيد ; لأنه تشفيق وإعلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السليمة اهـ .
وقوله من دون الله قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عبادا للقائل بأن ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأن حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإن النصارى لما جعلوا عيسى ربا لهم ، وجعلوه ابنا لله ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبيد الله وعبيد عيسى ، فلذلك [ ص: 295 ] جعلت مقالتهم مقتضية أن عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادا له من دون الله ، والمعنى أن الآمر بأن يكون الناس عبادا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله . ولكن كونوا ربانيين أي ولكن يقول كونوا منسوبين للرب ، وهو الله تعالى ، لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه .
ومعنى أن يكونوا مخلصين لله دون غيره .
والرباني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللحياني لعظيم اللحية ، والشعراني لكثير الشعر .
وقوله بما كنتم تعلمون الكتاب أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة ، فإن فائدة العلم العمل .
وقرأ الجمهور : بما كنتم تعلمون بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع علم ، وقرأه عامر ، وحمزة ، وعاصم ، وخلف : بضم ففتح فلام مشددة مكسورة مضارع علم المضاعف . والكسائي ،
وتدرسون معناه تقرءون أي قراءة بإعادة وتكرير : لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله ، فمنه قوله : درست الريح رسم الدار إذا عفته وأبلته ، فهو دارس ، يقال منزل دارس ، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين . وثوب دارس خلق ، وقالوا : درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه ، أو للتدبر ، وفي الحديث إلخ رواه ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة الترمذي فعطف التدارس على القراءة فعلم أن الدراسة أخص من القراءة . وسموا بيت قراءة اليهود مدراسا كما في الحديث : اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ . ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية وبما كنتم تدرسون على بما كنتم تعلمون الكتاب . إن النبيء - صلى الله عليه وسلم - خرج في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس
[ ص: 296 ] وفعله من باب نصر ، ومصدره في غالب معانيه الدرس ، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل درسا ومنه سمي تعليم العلم درسا .
ويجيء على وزن الفعالة دراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل ، مثل الكتابة والقراءة ، إلحاقا لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة .
وفي قوله ولا يامركم التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وقرأ الجمهور يأمركم بالرفع على ابتداء الكلام ، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي ، فإنه لما وقع بعد فعل منفي ، ثم انتقض نفيه بلكن ، احتيج إلى إعادة حرف النفي ، والمعنى على هذه القراءة واضح : أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمرهم أن يتخذوا الملائكة أربابا . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف : بالنصب عطفا على أن يقول ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله ما كان لبشر وليست معمولة لأن : لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى : لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألا يأمركم أن تتخذوا ، والمقصود عكس هذا المعنى ، إذ المقصود هنا أنه لا ينبغي له أن يأمر ، فلذلك اضطر في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد . وقرأه عن الدوري أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون .
ولعل المقصود من قوله ولا يامركم أن تتخذوا الملائكة والنبيئين أربابا : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة ، فصوروا صور النبيئين ، مثل يحيى ومريم ، وعبدوهما ، وصوروا صور الملائكة ، واقترن التصوير مع الغلو في تعظيم الصورة والتعبد عندها ، ضرب من الوثنية .
قال : إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل وينهاكم . والجواب أن ذلك باعتبار دعواهم وتقولهم على الرسل . وأقول : لعل التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله ابن عرفة ثم يقول للناس لأنهم زعموا أن المسيح قال : إنه ابن الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرهم باتخاذ الملائكة أربابا ، أو لأنهم لما كانوا يدعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه ، أو لأن المسيح لم ينههم عن ذلك في نفس الأمر ، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر في الرد على الأمة ، على أن أنبياءهم لم يأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
[ ص: 297 ] فهنالك سببان لإنكار أن يكون ما هم عليه مرضيا أنبياءهم; فإنه كفر ، وهم لا يرضون بالكفر . فما كان من حق من يتبعونهم التلبس بالكفر بعد أن خرجوا منه .
والخطاب في قوله ولا يامركم التفات من طريقة الغيبة في قوله ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فالمواجه بالخطاب هم الذين زعموا أن عيسى قال لهم : كونوا عبادا لي من دون الله .
فمعنى أنتم مسلمون يقتضي أنهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام . فقيل : أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله بالكفر .
وقيل : الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله إذ أنتم مسلمون لأن اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن ، فهذا الذي جرأ من قالوا : إن الآية نزلت لقول رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا نسجد لك ، ولا أراه لو كان صحيحا أن تكون الآية قاصدة إياه; لأنه لو أريد ذلك لقيل : ثم يأمر الناس بالسجود إليه ، ولما عرج على الأمر بأن يكونوا عبادا له من دون الله ولا بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .