وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور   ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير  عطف على الجملة السابقة عطف غرض على غرض ، وهو انتقال إلى غرض آخر لمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي   [ ص: 30 ] كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان الله يطلعه على أقوالهم فيخبرهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأنكم قلتم كذا وكذا ، فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد فأنزل الله وأسروا قولكم أو اجهروا به  كذا روي عن  ابن عباس    . 
وصيغة الأمر في ( أسروا ) و ( اجهروا ) مستعملة في التسوية كقوله تعالى اصبروا أو لا تصبروا  ، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها ( أو ) عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه . 
فنقول إنه عليم بذات الصدور  تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول ، أي فسواء في علم الله الإسرار والإجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بله ما يسرون به من الكلام ، ولذلك جيء بوصف عليم ؛ إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القوي علمه . 
وضمير ( إنه ) عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام ، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير ؛ لأن الاسم الذي في جملة إن الذين يخشون ربهم بالغيب  لا يكون معادا لكلام آخر . 
و ( ذات الصدور ) ما يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال . وهو مركب من ( ذات ) التي هي مؤنث ( ذو ) بمعنى صاحب ، والصدور بمعنى العقول وشأن ( ذو ) أن يضاف إلى ما فيه رفعة . 
وجملة ألا يعلم من خلق  استئناف بياني ناشئ عن قوله إنه عليم بذات الصدور  بأن يسأل سائل منهم : كيف يعلم ذات الصدور ؟ والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه ؟ فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور ، فإنه خالق أصحاب تلك الصدور ، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالا لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خلدها ، فالإتيان ب ( من ) الموصولة لإفادة التعليل بالصلة . 
فيجوز أن يكون ( من خلق ) مفعول ( يعلم ) ، فيكون ( يعلم ) و ( خلق ) رافعين ضميرين عائدين إلى ما عاد إليه ضمير ( إنه عليم بذات الصدور    ) ، فيكون ( من ) الموصولة صادقة على المخلوقين وحذف العائد من الصلة ؛ لأنه ضمير نصب يكثر حذفه . والتقدير : من خلقهم . 
 [ ص: 31 ] ويجوز أن يكون ( من خلق ) فاعل ( يعلم ) والمراد الله تعالى ، وحذف مفعول ( يعلم ) لدلالة قوله وأسروا قولكم أو اجهروا به    . والتقدير : ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير . 
والعلم يتعلق بذوات الناس وأحوالهم ؛ لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دال على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام ، فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة . 
وجملة وهو اللطيف الخبير  الأحسن أن تجعل عطفا على جملة ألا يعلم من خلق  لتفيد تعليما للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها ، فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون ، أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإسرار من الأحوال . 
واللطيف : العالم بخبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة . 
والخبير : العليم الذي لا تعزب عنه الحوادث الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر ، وتقدم عند قوله تعالى وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير  في الأنعام وعند قوله إن الله لطيف خبير  في سورة لقمان . 
				
						
						
