فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون .
[ ص: 44 ] يجوز أن يكون يوم تبيض وجوه منصوبا على الظرف ، متعلقا بما في قوله لهم عذاب من معنى كائن أو مستقر : أي يكون عذاب لهم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجمل . ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل اذكر محذوفا ، وتكون جملة تبيض وجوه صفة ليوم على تقدير : تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه .
وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه ، تهويل لأمره ، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة ، والوجوه المسودة : ترهيبا لفريق وترغيبا لفريق آخر . والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل : في الآيات النازلة قبل هذه الآية ، مثل قوله تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة وقوله وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة .
والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة ، وهما بياض وسواد خاصان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته .
وقوله تعالى فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم تفصيل للإجمال السابق ، سلك فيه طريق النشر المعكوس ، وفيه إيجاز لأن أصل الكلام ، فأما الذين اسودت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخره : وأما الذين ابيضت وجوههم فهم المؤمنون و في رحمة الله هم فيها خالدون .
وقدم عند وصف اليوم ذكر البياض ، الذي هو شعار أهل النعيم ، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته ، ولأن رحمة الله سبقت غضبه ، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم ، عقب وعيد غيرهم بالعذاب ، حسرة عليهم ، إذ [ ص: 45 ] يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم . ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم .
وقوله أكفرتم مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره : لأن الاستفهام لا يصدر إلا من مستفهم ، وذلك القول هو جواب أما ، ولذلك لم تدخل الفاء على أكفرتم ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمته .
وقائل هذا القول مجهول ، إذ لم يتقدم ما يدل عليه ، فيحتمل أن ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الذين عرفوهم في الدنيا مؤمنين ، ثم رأوهم وعليهم سمة الكفر ، كما ورد في حديث الحوض والمستفهم سلفهم من قومهم أو رسولهم ، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجب . فليردن علي أقوام أعرفهم ثم يختلجون دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
ويحتمل أنه بقوله تعالى لهم ، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط ، ثم إن كان المراد بالذين اسودت وجوههم أهل الكتاب فمعنى كفرهم بعد إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها ، أو كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد إيمانهم بموسى وعيسى ، كما تقدم في قوله إن الذين كفروا بعد إيمانهم وهذا هو المحمل البين ، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه ، فإنه مسوق لوعيد أولئك . ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذرهم منه القرآن ، فتفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات : الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك ، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذ ظاهر ، وعلى هذا المعنى تأول الآية فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فيما روى عنه مالك بن أنس ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب المرتدين والمحاربين من العتبية قال ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية يوم [ ص: 46 ] تبيض وجوه وتسود وجوه قال مالك : إنما هذه لأهل القبلة . يعني أنها ليست للذين تفرقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله أكفرتم بعد إيمانكم . ورواه أبو غسان مالك الهروي عن مالك عن وروي مثل هذا عن ابن عمر ، وعلى هذا الوجه فالمراد الذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردة أو بشنيع الأقوال التي تفضي إلى الكفر ونقض الشريعة ، مثل ابن عباس ، الغرابية من الشيعة الذين قالوا بأن النبوءة لعلي ، ومثل غلاة الإسماعيلية أتباع وأتباع حمزة بن علي ، الحاكم العبيدي ، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحا ولا لزوما بينا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأولين ومن يئول قولهم إلى لوازم سيئة .
وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد .