يا أيتها النفس المطمئنة  ارجعي إلى ربك راضية مرضية  فادخلي في عبادي  وادخلي جنتي     ) . 
لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتبعوا هديه ، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس ، فإن ذلك يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر . 
 [ ص: 341 ] واتصال هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة ، وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد ، وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة ، فيجوز أن يقال يوم الجزاء ، فهو مقول قول محذوف هو جواب " إذا " ( إذا دكت الأرض ) الآية ، وما بينهما مستطرد واعتراض . 
فهذا قول يصدر يوم القيامة من جانب القدس من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة ، فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله : ( إلى ربك ) إظهارا في مقام الإضمار بقرينة تفريع ( ( فادخلي في عبادي    ) عليه . ونكتة هذا الإظهار ما في وصف ( رب ) من الولاء والاختصاص ، وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطبة من التشريف لها . 
وإن كان من قول الملائكة فلفظ ( ربك ) جرى على مقتضى الظاهر ، وعطف ( فادخلي في عبادي ) عطف تلقين يصدر من كلام الله تعالى تحقيقا لقول الملائكة ( ارجعي إلى ربك ) . 
والرجوع إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف ، قال تعالى : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر    ) بحيث شبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة ؛ لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة ، فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها : ارجعي إليه ، وهذا الرجوع خاص غير مطلق الحلول في الآخرة . 
ويجوز أن تكون الآية استئنافا ابتدائيا جرى على مناسبة ذكر عذاب الإنسان المشرك ، فتكون خطابا من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة . 
والأمر في ( ارجعي إلى ربك ) مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما ( راضية مرضية ) وهو من استعمال الأمر في الوعد ، والرجوع مجاز أيضا ، والإضمار في قوله : ( في عبادي ) وقوله : ( جنتي ) التفات من الغيبة إلى التكلم . 
وقال بعض أهل التأويل : نزلت في معين . فعن الضحاك    : أنها نزلت في  عثمان بن عفان  لما تصدق ببئر رومة    . وعن بريدة    : أنها نزلت في حمزة  حين قتل . وقيل : نزلت في  خبيب بن عدي  لما صلبه أهل مكة    . وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية   [ ص: 342 ] مدنية ، والاتفاق على أن السورة مكية إلا ما رواه الداني  عن بعض العلماء أنها مدنية ، وهي - على هذا - منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة . 
وعن  ابن عباس   وزيد بن حارثة   وأبي بن كعب   وابن مسعود    : أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد ، وعلى هذا فهي متصلة بقوله : ( إذا دكت الأرض    ) إلخ كالوجه الذي قبل هذا ، والرجوع على هذا حقيقة ، والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد . 
وعن  زيد بن حارثة  وأبي صالح    : يقال هذا للنفس عند الموت . وقد روى  الطبري  عن  سعيد بن جبير  قال : قرأ رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أيتها النفس المطمئنة  ارجعي إلى ربك راضية مرضية    ) فقال أبو بكر    : ما أحسن هذا ! فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : " أما إن الملك سيقولها لك عند الموت "   . وعن  زيد بن حارثة  أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة   . 
والنفس : تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى : ( أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله    ) وقوله : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق    ) وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله : ( إن النفس لأمارة بالسوء    ) . 
وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى . 
والمطمئنة : اسم فاعل من ( اطمأن ) إذا كان هادئا غير مضطرب ولا منزعج ، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب بال فيكون ثناء على هذه النفس ، ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة . 
وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن افعلل ، والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما ينطق به وهذا قول أبي عمرو . وقال سيبويه : أصل الفعل : ( طأمن ) فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة ، فيكون أصل " مطمئنة " عنده " مطأمنة " ومصدره اطئمنان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ( ولكن ليطمئن قلبي    ) في سورة البقرة ، وقوله : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة    ) في سورة النساء . 
 [ ص: 343 ] ووصف النفس بـ ( المطمئنة ) ليس وصفا للتعريف ولا للتخصيص ، أي : لتمييز المخاطبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة ؛ لأنهم لا يعرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإذن لهم بدخول الجنة ، فالوصف مراد به الثناء والإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وتبشير من وجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون ، ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاما في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون . والاطمئنان : مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق ، فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء . 
وقد فسر الاطمئنان : بيقين وجود الله ووحدانيته ، وفسر باليقين بوعد الله ، وبالإخلاص في العمل ، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود ، فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة ، وفسر بتبشيرهم بالجنة ، أي قبل ندائهم ثم نودوا بأن يدخلوا الجنة . 
والرجوع يحتمل الحقيقة والمجاز كما علمت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية . 
والراضية : التي رضيت بما أعطيته من كرامة ، وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه . 
والمرضية : اسم مفعول ، وأصله : مرضيا عنها ، فوقع فيه الحذف والإيصال ، فصار نائب فاعل بدون حرف الجر ، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإنعام ; لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما رضي به هو . 
وفرع على هذه البشرى الإجمالية تفصيل ذلك بقوله : ( فادخلي في عبادي وادخلي جنتي    ) فهو تفصيل بعد الإجمال لتكرير إدخال السرور على أهلها . 
والمعنى : ادخلي في زمرة عبادي . والمراد العباد الصالحون بقرينة مقام الإضافة مع قرنه بقوله : ( جنتي ) . ومعنى هذا كقوله تعالى : ( لندخلنهم في الصالحين    ) . 
 [ ص: 344 ] فالظرفية حقيقة وتئول إلى معنى المعية كقوله تعالى : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا    ) . 
وإضافة جنة إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف كقوله : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر    ) . 
وهذه الإضافة هي مما يزيد الالتفات إلى ضمير التكلم حسنا بعد طريقة الغيبة بقوله : ( ارجعي إلى ربك    ) . 
وتكرير فعل ( وادخلي ) فلم يقل : فادخلي جنتي في عبادي ؛ للاهتمام بالدخول بخصوصه تحقيقا للمسرة لهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					