فما يكذبك بعد بالدين   أليس الله بأحكم الحاكمين    . 
تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين ; لأن ما بعد الفاء من كلام مسبب عن البيان الذي قبل الفاء ، أي : فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين ردوا إلى أسفل سافلين فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان . 
و ( ما ) يجوز أن تكون استفهامية ، والاستفهام توبيخي ، والخطاب للإنسان المذكور في قوله : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم    ) فإنه بعد أن استثني منه الذين آمنوا بقي الإنسان المكذب . 
وضمير الخطاب التفات ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فما يكذبه ، ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإنسان المكذب بالتوبيخ . 
ومعنى ( يكذبك ) : يجعلك مكذبا ، أي : لا عذر لك في تكذيبك بالدين . 
ومتعلق التكذيب : إما محذوف لظهوره ، أي : يجعلك مكذبا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وإما المجرور بالباء ، أي : يجعلك مكذبا بدين الإسلام ، أو مكذبا بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء ، وجملة ( أليس الله بأحكم الحاكمين    ) مستأنفة للتهديد والوعيد . 
والدين يجوز أن يكون بمعنى الملة أو الشريعة ، كقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام    ) وقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا    ) . 
وعليه تكون الباء للسببية ، أي : فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئت به من الدين فالله يحكم فيه . ومعنى ( يكذبك ) : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين ، أو ما أنذرت به من الجزاء ، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين . 
 [ ص: 431 ] ويجوز أن يكون الدين بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله : ( مالك يوم الدين    ) وقوله : يصلونها يوم الدين  وتكون الباء صلة ( يكذب ) كقوله : ( وكذب به قومك وهو الحق    ) وقوله : ( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به    ) . 
ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة وماصدقها المكذب ، فهو بمعنى ( من ) ، وهي في محل مبتدأ ، والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والضمير المستتر في ( يكذبك ) عائد إلى ( ما ) وهو الرابط للصلة بالموصول ، والباء للسببية ، أي : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الإسلام أو من إثبات البعث والجزاء . 
وحذف ما أضيف إليه ( بعد ) فبنيت بعد على الضم ، والتقدير : بعد تبين الحق أو بعد تبين ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين . 
وجملة ( أليس الله بأحكم الحاكمين    ) يجوز أن تكون خبرا عن ( ما ) والرابط محذوف تقديره : بأحكم الحاكمين فيه . 
ويجوز أن تكون الجملة دليلا على الخبر المخبر به عن ( ما ) الموصولة وحذف إيجازا اكتفاء بذكر ما هو كالعلة له ، فالتقدير : فالذي يكذبك بالدين يتولى الله الانتصاف منه ، أليس الله بأحكم الحاكمين . والاستفهام تقريري . 
و ( أحكم ) يجوز أن يكون مأخوذا من الحكم ، أي : أقضى القضاة . ومعنى التفضيل أن حكمه أسد وأنفذ ، ويجوز أن يكون مشتقا من الحكمة . والمعنى : أنه أقوى الحاكمين حكمة في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة ، ونوط الخبر بذي وصف يؤذن بمراعاة خصائص المعنى المشتق منه الوصف ، فلما أخبر عن الله بأنه أفضل الذين يحكمون ، علم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته ، وهي : إصابة الحق ، وقطع دابر الباطل ، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه . 
 [ ص: 432 ] روى الترمذي  وأبو داود  عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ منكم ( والتين والزيتون    ) فانتهى إلى قوله : ( أليس الله بأحكم الحاكمين    ) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين   " . 
				
						
						
