وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة     . 
ارتقاء في الإبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلال لما ينافي ثبوت المدلول ؛ وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى ؛ ولذلك أظهر فاعل تفرق ولم يقل : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، إذ لو أضمر لتوهمت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير ، بعد أن أبطل زعمهم بقوله : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة  ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالا مشوبا بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية . 
فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالا على إبطال ، ويجوز أن تكون واو الحال . 
والمعنى : كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيى بوقت أن تأتيهم البينة ؛ والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإسلام وهي بينة عيسى    - عليه السلام - فتفرقوا في الإيمان به ، فنشأ من تفرقهم حدوث ملتين : اليهودية والنصرانية . 
والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى    - عليه السلام - ، فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثال إلياس  واليسع وأشعياء    . وقد أجمع اليهود على النبيء الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص ، فلما جاءهم عيسى  كذبوه ؛ أي : فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى  وهم قد كذبوا ببينة عيسى  ؛ فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة . 
والمراد بالتفرق : تفرق بين إسرائيل بين مكذب لعيسى  ومؤمن به ، وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود . 
 [ ص: 479 ] وجعل التفرق كناية عن إنكار البينة ; لأن تفرقهم كان اختلافا في تصديق بينة عيسى    - عليه السلام - ، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مذمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم    . 
فالتعريف في البينة المذكورة ثانيا يجوز أن يكون للعهد الذهني ، أو للمعهود بين المتحدث عنهم ، وهي بينة أخرى غير الأولى ، وإعادتها من إعادة النكرة نكرة مثلها ؛ إذ المعروف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة ، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفة مثلها ، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها . 
وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة  أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام ، أي : تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد  صلى الله عليه وسلم . وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد ، فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين ، وجعلوا المراد بـ " البينة " الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد    - صلى الله عليه وسلم - ؛ سوى أن الفخر  ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب ، فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين أتى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته ، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل البينة الأولى ؛ إذ قال : المقصود من هذه الآية تسلية محمد    - صلى الله عليه وسلم    - ، أي : لا يغمنك تفرقهم ، فليس ذلك لقصور في الحجة ، بل لعنادهم ؛ فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة ؛ فهي عادة قديمة لهم ، وهو معارض لأول كلامه ، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر  في المسودة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					