يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات .
إن كان الناس قد سألوا عما أحل لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرم عليهم في الآية السابقة ، أو قبل أن يسمعوا ذلك ، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن ، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدد السؤال ، أي تكرره أو توقع تكرره . وعليه فوجه فصل جملة يسألونك أنها استئناف بياني ناشئ عن جملة حرمت عليكم الميتة وقوله فمن اضطر في مخمصة ، أو هي استئناف ابتدائي : للانتقال من بيان المحرمات إلى بيان الحلال بالذات ، وإن كان السؤال لم يقع ، وإنما قصد به توقع السؤال ، كأنه قيل : إن سألوك ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقع أن يسأل الناس عن ضبط الحلال ، لأنه مما تتوجه النفوس إلى الإحاطة به ، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرم عليهم من غير ما عدد لهم في الآيات السابقة ، وقد بينا في مواضع مما تقدم منها قوله تعالى يسألونك عن الأهلة في سورة البقرة : أن صيغة يسألونك في القرآن تحتمل الأمرين . فعلى الوجه الأول يكون الجواب قد حصل ببيان المحرمات أولا ثم ببيان الحلال ، أو ببيان الحلال فقط ، إذا كان [ ص: 111 ] بيان المحرمات سابقا على السؤال ، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع ، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدم ذكره .
و ( الطيبات ) صفة لمحذوف معلوم من السياق ، أي الأطعمة الطيبة ، وهي الموصوفة بالطيب ، أي التي طابت . وأصل معنى الطيب معنى الطهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلا وآجلا ، فالشيء المستلذ إذا كان وخما لا يسمى طيبا : لأنه يعقب ألما أو ضرا ، ولذلك كان طيب كل شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه . وقد أطلق الطيب على المباح شرعا ; لأن إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرة ، قال تعالى كلوا مما في الأرض حلالا طيبا . والمراد بالطيبات في قوله أحل لكم الطيبات معناها اللغوي ليصح إسناد فعل ( أحل ) إليها . وقد تقدم شيء من معنى الطيب عند قوله تعالى يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا في سورة البقرة ، ويجيء شيء منه عند قوله تعالى ( والبلد الطيب ) في سورة الأعراف .
و الطيبات وصف للأطعمة قرن به حكم التحليل ، فدل على أن الطيب علة التحليل ، وأفاد أن الحرام ضده وهو الخبائث ، كما قال في آية الأعراف ، في ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث .
وقد اختلف أقوال السلف في ; فعن ضبط وصف الطيبات مالك : الطيبات الحلال ، ويتعين أن يكون مراده أن الحل هو المؤذن بتحقق وصف الطيب في الطعام المباح ، لأن الوصف الطيب قد يخفى ، فأخذ مالك بعلامته وهي الحل كيلا يكون قوله ( الطيبات ) حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ ، فيتعين إذن أن يكون قوله ( أحل لكم الطيبات ) غير مراد منه ضبط الحلال ، بل أريد به الامتنان [ ص: 112 ] والإعلام بأن ما أحله الله لهم فهو طيب ، إبطالا لما اعتقدوه في زمن الشرك : من تحريم ما لا موجب لتحريمه ، وتحليل ما هو خبيث . ويدل لذلك تكرر ذكر الطيبات مع ذكر الحلال في القرآن ، مثل قوله اليوم أحل لكم الطيبات وقوله في الأعراف ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث . وعن : الطيبات : الحلال المستلذ ، فكل مستقذر كالوزغ فهو من الخبائث حرام . قال الشافعي فخر الدين : العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ، وتتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلا أنه دخله التخصيص بحرمة الخبائث ، فصار هذا أصلا كبيرا في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة . منها أن مباح عند لحم الخيل . وقال الشافعي أبو حنيفة : ليس بمباح . حجة أنه مستلذ مستطاب ، والعلم بذلك ضروري ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالا ، لقوله تعالى الشافعي أحل لكم الطيبات . وفي شرح الهداية في الفقه الحنفي لمحمد الكاكي أن ما استطابه العرب حلال ، لقوله تعالى ويحل لهم الطيبات ، حرام ، لقوله وما استخبثه العرب ويحرم عليهم الخبائث . والذين تعتبر استطابتهم أهل الحجاز من أهل الأمصار ، لأن القرآن أنزل عليهم وخوطبوا به ، ولم يعتبر أهل البوادي لأنهم يأكلون ما يجدون للضرورة والمجاعة . وما يوجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز اهـ . وفيه من التحكم في تحكيم عوائد بعض الأمة دون بعض ما لا يناسب التشريع العام ، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضب بشهادة قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث خالد بن الوليد ، ومع ذلك لم يحرمه على خالد . ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه
والذي يظهر لي : أن الله قد ناط فلا جرم أن يكون ذلك منظورا فيه إلى ذات الطعام ، وهو أن يكون غير ضار ولا مستقذر ولا مناف للدين ، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرمه [ ص: 113 ] الدين ، وأن يكون مقبولا عند جمهور المعتدلين من البشر ، من كل ما يعده البشر طعاما غير مستقذر ، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات ، وعن الطبائع المنحرفات . ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات ، ويترك بعضهم ذلك البعض . فمن العرب من يأكل الضب واليربوع والقنافذ ، ومنهم من لا يأكلها . ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذر ذلك . وأهل مدينة إباحة الأطعمة بوصف الطيب تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز ، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز ، وفي أهل الصحاري تستجاد لحوم الإبل وألبانها ، وفي أهل الحضر من يكره ذلك ، وكذلك دواب البحر وسلاحفه وحياته . والشريعة أوسع من ذلك كله فلا يقضي فيها طبع فريق على فريق . والمحرمات فيها من الطعوم ما يضر تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدرات كالأفيون والحشيشة المخدرة ، وما هو نجس الذات بحكم الشرع ، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيور وأرواث النعام ، وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطا للتحريم إلا المحرمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله . والقول بأن بعضها حلال دون بعض بدون نص ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل ، فما الذي سوغ الظبي وحرم الأرنب ، وما الذي سوغ السمكة وحرم حية البحر ، وما الذي سوغ الجمل وحرم الفرس ، وما الذي سوغ الضب والقنفذ وحرم السلحفاة ، وما الذي أحل الجراد وحرم الحلزون ، إلا أن يكون له نص صحيح ، أو نظر رجيح ، وما سوى ذلك فهو ريح . وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نص فيه أو في مواقع المتشابهات .