فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم .
بعد قوله - تعالى - : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به أعيد تذكيرهم بنعمة أخرى عظيمة على جميعهم إذ كانت فيها سلامتهم ، تلك هي نعمة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم لأنها نعمة يحصل بها ما يحصل من النصر دون تجشم مشاق الحرب ومتالفها . وافتتاح الاستئناف بالنداء ليحصل إقبال السامعين على سماعه . ولفظ يا أيها الذين آمنوا وما معه من ضمائر الجمع يؤذن بأن الحادثة تتعلق بجماعة المؤمنين كلهم . وقد أجمل النعمة ثم بينها بقوله : " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " .
وقد ذكر المفسرون احتمالات في تعيين القوم المذكورين في هذه الآية . والذي يبدو لي أن المراد قوم يعرفهم المسلمون يومئذ ; فيتعين أن تكون إشارة إلى وقعة مشهورة أو قريبة من تاريخ نزول هذه السورة . ولم أر فيما ذكروه ما تطمئن له النفس . والذي أحسب أنها تذكير بيوم الأحزاب ; لأنها تشبه قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها " الآية .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما كان من عزم أهل مكة على الغدر [ ص: 138 ] بالمسلمين حين نزول المسلمين بالحديبية عام صلح الحديبية ثم عدلوا عن ذلك . وقد أشارت إليها الآية " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " الآية . ويجوز أن تكون الإشارة إلى عزم أهل خيبر وأنصارهم من غطفان وبني أسد على قتال المسلمين حين حصار خيبر ، ثم رجعوا عن عزمهم وألقوا بأيديهم ، وهي التي أشارت إليها آية " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم . وعن قتادة : سبب الآية ما همت به بنو محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر فأشعر الله رسوله بذلك ، ونزلت صلاة الخوف ، وكف الله أيديهم عن المؤمنين .
وأما ما يذكر من غير هذا مما هم به بنو النضير من قتل النبيء صلى الله عليه وسلم حين جاءهم يستعينهم على دية العامريين فتآمروا على أن يقتلوه ، فأوحى الله إليه بذلك فخرج هو وأصحابه . وكذا ما يذكر من أن المراد قصة الأعرابي الذي اخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائل في منصرفه من إحدى غزواته ; فذلك لا يناسب خطاب الذين آمنوا ، ولا يناسب قصة الأعرابي لأن الذي أهم بالقتل واحد لا قوم .
وبسط اليد مجاز في البطش قال - تعالى - : ( ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ) ويطلق على السلطة مجازا أيضا ، كقولهم : يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من بسطت يده في الأرض ، وعلى الجود ، كما في قوله - تعالى - : ( بل يداه مبسوطتان ) . وهو حقيقة في محاولة الإمساك بشيء ، كما في قوله - تعالى حكاية عن ابن آدم - : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) .
وأما كف اليد فهو مجاز عن الإعراض عن السوء خاصة وكف أيدي الناس عنكم .
[ ص: 139 ] والأمر بالتقوى عقب ذلك لأنها أظهر الشكر ، فعطف الأمر بالتقوى بالواو للدلالة على أن التقوى مقصودة لذاتها ، وأنها شكر لله بدلالة وقوع الأمر عقب التذكير بنعمة عظمى .
وقوله : وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمر لهم بالاعتماد على الله دون غيره . وذلك التوكل يعتمد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات فناسب التقوى . وكان من مظاهره تلك النعمة التي ذكروا بها .