وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين .
هذه الجملة عطف على جملة فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . والاستفهام للتعجيب ، ومحل العجب مضمون قوله : ثم يتولون من بعد ذلك ، أي من العجيب أنهم يتركون كتابهم ويحكمونك وهم غير مؤمنين بك ثم يتولون بعد حكمك إذا لم يرضهم . فالإشارة بقوله : " من بعد ذلك " إلى الحكم المستفاد من " يحكمونك " أي جمعوا عدم الرضا بشرعهم وبحكمك . وهذه غاية التعنت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين ، كما وصف الله حال المنافقين في قوله : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . ويحتمل أن الاستفهام إنكاري ، أي هم لا يحكمونك حقا . ومحل الإنكار هو أصل ما يدل عليه الفعل من كون فاعله جادا ، أي لا يكون تحكيمهم صادقا بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم ، لأن لديهم التوراة فيها حكم ما حكموك فيه ، وهو حكم الله ، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم ، ولذلك قدروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم ، فما هم بمحكمين حقيقة . فيكون فعل يحكمونك مستعملا في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه ، كقوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا الآية . ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله : " من بعد ذلك " إلى مجموع ما ذكر ، وهو التحكيم ، وكون التوراة عندهم ، [ ص: 207 ] أي يتولون عن حكمك في حال ظهور الحجة الواضحة ، وهي موافقة حكومتك لحكم التوراة .
وجملة وما أولئك بالمؤمنين في موضع الحال من ضمير الرفع في يحكمونك . ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلقه للإشارة إلى أنهم ما آمنوا بالتوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقا .
وضمير " فيها " عائد إلى التوراة ، فتأنيثه مراعاة لاسم التوراة وإن كان مسماها كتابا ولكن لأن صيغة " فعلاة " معروفة في الأسماء المؤنثة مثل موماة . وتقدم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى وأنزل التوراة والإنجيل في سورة آل عمران .