تقضى تحذيرهم من أعدائهم في الدين ، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه ، فأقبل على تنبيههم إلى أن ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه ، وأن الله لا يناله نفع من ذلك ، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لم يضر الله شيئا ، وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد ، وهذا كقوله تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ، وقوله : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
فجملة يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم إلخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة إنما وليكم الله ، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله : ومن يتولهم منكم فإنه منهم . فتعقيبها بهذا الاعتراض إشارة إلى أن اتخاذ اليهود [ ص: 235 ] والنصارى أولياء ذريعة للارتداد ، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق . وأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان بأن الإسلام غني عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر " من يرتدد " بدالين على فك الإدغام ، وهو أحد وجهين في مثله ، وهو لغة أهل الحجاز ، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام . وقرأ الباقون بدال واحدة مشددة بالإدغام ، وهو لغة تميم . وبفتح على الدال فتحة تخلص من التقاء الساكنين لخفة الفتح ، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة .
والارتداد مطاوع الرد ، والرد هو الإرجاع إلى مكان أو حالة ، قال تعالى ردوها علي . وقد يطلق الرد بمعنى التصيير ومنكم من يرد إلى أرذل العمر . وقد لوحظ في إطلاق اسم على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره ، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتد عنه اتخاذ دين قبله . الارتداد
وجملة فسوف يأتي الله بقوم إلخ جواب الشرط ، وقد حذف منها العائد على الشرط الاسمي ، وهو وعد بأن هذا الدين لا يعدم أتباعا بررة مخلصين . ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين ، وقلة الاكتراث بهم ، كقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا وتطمين الرسول والمؤمنين الحق بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيرا منهم . فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمنه حتى كان للشرط جوابان .
وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسود العنسي باليمن ، وأصحاب طلحة بن خويلد في بني أسد ، وأصحاب مسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة . ثم إلى ما كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من ارتداد قبائل كثيرة مثل فزارة وغطفان وبني تميم وكندة ونحوهم .
[ ص: 236 ] قيل : لم يبق إلا أهل ثلاثة مساجد : مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد جؤاثى في البحرين ( أي من أهل المدن الإسلامية يومئذ ) . وقد صدق الله وعده ونصر الإسلام فأخلفه أجيالا متأصلة فيه قائمة بنصرته .
وقوله : يأتي الله بقوم ، الإتيان هنا الإيجاد ، أي يوجد أقواما لاتباع هذا الدين بقلوب تحبه وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم ، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الذين ارتدوا ، إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم مما كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردة زمن أبي بكر ، فإن مجموعهم غير مجموع الذين ارتدوا ، فصح أن يكونوا ممن شمله لفظ " بقوم " وتحقق فيهم الوصف وهو محبة الله إياهم ومحبتهم ربهم ودينه ، فإن المحبتين تتبعان تغير أحوال القلوب لا تغير الأشخاص فإن عمرو بن معدي كرب الذي كان من أكبر عصاة الردة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسية ، وهكذا .
ودخل في قوله : " بقوم " الأقوام الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة ، وعرب العراق ونبطهم ، وأهل فارس ، والقبط ، والبربر ، وفرنجة إسبانية ، وصقلية ، وسردانية ، وتخوم فرانسا ، ومثل الترك والمغول ، والتتار ، والهند ، والصين ، والإغريق ، والروم ، من الأمم التي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حضارته بين الأمم العظيمة ، فكل أمة أو فريق أو قوم تحقق فيهم وصف يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فهم من القوم المنوه بهم ، أما المؤمنون الذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأنا وأقوى إيمانا فأتاهم المؤيدون زرافات ووحدانا .
ومحبة الله عبده رضاه عنه وتيسير الخير له ، انفعال النفس نحو تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدفاع عن دينه . فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصور عظمة الله تعالى ونعمه حتى تتمكن من قلبه ، فمنشؤها السمع [ ص: 237 ] والتصور . وليست هي كمحبة استحسان الذات ، ألا ترى أنا نحب النبيء صلى الله عليه وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدنيا والآخرة ، وتقوى هذه المحبة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرفاته وهديه ، وكذلك نحب الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسمع من حبهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين ، وكذلك نحب ومحبة العبد ربه حاتما لما نسمع من كرمه . وقد قالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم : . ما كان أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك ، وقد أصبحت وما أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك
والأذلة والأعزة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلق بهما ، فالأذلة جمع الذليل وهو الموصوف بالذل . والذل بضم الذال وبكسرها الهوان والطاعة ، فهو ضد العز ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة . وفي بعض التفاسير : الذل بضم الذال ضد العز وبكسر الذال ضد الصعوبة ، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة . والذليل جمعه الأذلة ، والصفة الذل واخفض لهما جناح الذل من الرحمة . ويطلق الذل على لين الجانب والتواضع ، وهو مجاز ، ومنه ما في هذه الآية .
فالمراد هنا الذل بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف ، وهو شدة الرحمة والسعي للنفع ، ولذلك علق به قوله : على المؤمنين . ولتضمين " أذلة " معنى مشفقين حانين عدي بـ " على " دون اللام ، أو لمشاكلة ( على ) الثانية في قوله : على الكافرين .
والأعزة جمع العزيز فهو المتصف بالعز وهو القوة والاستقلال ، ولأجل ما في طباع العرب من القوة صار العز في كلامهم يدل على معنى الاعتداء ، ففي المثل ( من عز بز ) . وقد أصبح الوصفان متقابلين ، فلذلك قال السموأل أو الحارثي :
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربية بديعية ، وهي المسماة الطباق ، وبلغاء العرب يغربون بها ، وهي عزيزة في كلامهم ، وقد جاء كثير منها في [ ص: 238 ] القرآن . وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تسيرها آراؤهم الحصيفة فليسوا مندفعين إلى فعل ما إلا عن بصيرة ، وليسوا ممن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون لينا في كل حال ، وهذا هو معنى الخلق الأقوم ، وهو الذي يكون في كل حال بما يلائم ذلك الحال ، قال :حليم إذا ما الحلم زين أهـلـه مع الحلم في عين العدو مهيب
وقوله : يجاهدون في سبيل الله صفة ثالثة ، وهي من أكبر العلامات الدالة على صدق الإيمان . ، أي الطاقة في دفاع العدو ، ونهاية الجهد التعرض للقتل ، ولذلك جيء به على صيغة مصدر " فاعل " لأنه يظهر جهده لمن يظهر له مثله . وقوله : والجهاد : إظهار الجهد ولا يخافون لومة لائم صفة رابعة ، وهي عدم الخوف من الملامة ، أي في أمر الدين ، كما هو السياق .
واللومة : الواحدة من اللوم . وأريد بها هنا مطلق المصدر ، كاللوم لأنها لما وقعت في سياق النفي فعمت زال منها معنى الوحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمم بدخول ( ال ) الجنسية لأن ( لا ) في عموم النفي مثل ( ال ) في عموم الإثبات ، أي لا يخافون جميع أنواع اللوم من جميع اللائمين إذ اللوم منه شديد ، كالتقريع ، وخفيف; واللائمون : منهم اللائم المخيف والحبيب : فنفى عنهم خوف جميع أنواع اللوم . ففي الجملة ثلاثة عمومات : عموم الفعل في سياق النفي ، وعموم المفعول ، وعموم المضاف إليه . وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأن الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة .
ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثقة بالنفس وأصالة الرأي . وقد عد فقهاؤنا في وصف القاضي أن يكون مستخفا باللائمة على أحد تأويلين في عبارة المتقدمين ، واحتمال التأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعا .
[ ص: 239 ] وجملة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء تذييل . واسم الإشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة .
و " واسع " وصف بالسعة ، أي عدم نهاية التعلق بصفاته ذات التعلق ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم في سورة آل عمران .