الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم  الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون    . 
جملة مستأنفة ، انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إخبار عام كسائر أخبار القرآن . أظهر الله دليلا على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله : قل الله شهيد بيني وبينكم  ، فإنه لما جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمن صدق من جاء به ، لأنه هو الآية المعجزة العامة الدائمة . وقد علمت آنفا أن الواحدي  ذكر أن رؤساء المشركين قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : قد سألنا عنك اليهود  والنصارى  فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره ; فإذا كان كذلك كان التعرض لأهل الكتاب هنا إبطالا لما قالوه أنه ليس عندهم ذكر النبيء ولا صفته ، أي فهم   [ ص: 171 ] وأنتم سواء في جحد الحق ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعين أن تجعل المراد بـالذين آتيناهم الكتاب  بعض أهل الكتاب ، وهم المنصفون منهم مثل  عبد الله بن سلام  ومخيريق  ، فقد كان المشركون يقدرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل ،  فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحة الدين موثوقا بها عندهم إذا أدوها ولم يكتموها . وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس . 
فالضمير المنصوب في قوله يعرفونه عائد إلى القرآن الذي في قوله : وأوحي إلي هذا القرآن    . والمراد أنهم يعرفون أنه من عند الله ويعرفون ما تضمنه مما أخبرت به كتبهم ، ومن ذلك رسالة من جاء به ، وهو محمد    - صلى الله عليه وسلم - لما في كتبهم من البشارة به . والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود  والنصارى  كقوله تعالى : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب    . 
والتشبيه في قوله : كما يعرفون أبناءهم  تشبيه المعرفة بالمعرفة . فوجه الشبه هو التحقق والجزم بأنه هو الكتاب الموعود به ، وإنما جعلت المعرفة المشبه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضل عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنه هو ابنه المعروف ، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفا . 
وقيل : إن ضمير ( يعرفونه ) عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله إنما هو إله واحد  ، وهذا بعيد . وقيل : الضمير عائد إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - مع أنه لم يجر له ذكر فيما تقدم صريحا ولا تأويلا . ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو غير مناسب على أن في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجة وهي القرآن . 
وقوله : الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون  استئناف لزيادة إيضاح تصلب المشركين وإصرارهم ، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم ، كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله : ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه    . فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجة وقطع المعذرة ، وأنهم مصرون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول   [ ص: 172 ] أهل الكتاب ، كقوله : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم    . وقيل : أريد بهم أهل الكتاب ، أي الذين كتموا الشهادة ، فيكون الذين خسروا  بدلا من الذين آتيناهم الكتاب    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					