وربك الغني ذو الرحمة   
 [ ص: 85 ] عطفت جملة وربك الغني  على جملة وما ربك بغافل عما يعملون  إخبارا عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : إن تكفروا فإن الله غني عنكم  وكناية عن رحمته ؛ إذ أمهل المشركين ولم يعجل لهم العذاب ، كما قال : وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب  في سورة الكهف . 
وقوله : ( وربك ) إظهار في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغني ذو الرحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الرب من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحكم ، وللتنويه بشأن النبيء صلى الله عليه وسلم . 
والغني : هو الذي لا يحتاج إلى غيره ، والغني الحقيقي هو الله تعالى لأنه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إن صفة الغني الثابتة لله تعالى يشمل معناها وجوب الوجود  ؛ لأن افتقار الممكن إلى الموجد المختار الذي يرجح طرف وجوده على طرف عدمه هو أشد الافتقار ، وأحسب أن معنى الغني صفة الوجود في متعارف اللغة ، إلا أن يكون ذلك اصطلاحا للمتكلمين خاصا بمعنى الغني المطلق ، ومما يدل على ما قلته أن من أسمائه تعالى المغني ، ولم يعتبر في معناه أنه موجد الموجودات ، وتقدم الكلام على معنى الغني عند قوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا  في سورة النساء . 
وتعريف المسند باللام مقتض تخصيصه بالمسند إليه ؛ أي : قصر الغنى على الله ، وهو قصر ادعائي باعتبار أن غنى غير الله تعالى لما كان غنى ناقصا نزل منزلة العدم ؛ أي : ربك الغني لا غيره ، وغناه تعالى حقيقي ، وذكر وصف الغني هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه ، وهو إن يشأ يذهبكم  فهو من تقديم الدليل بين يدي الدعوى ، تذكيرا بتقريب حصول الجزم بالدعوى . 
 [ ص: 86 ] و ذو الرحمة  خبر ثان . 
وعدل عن أن يوصف بوصف الرحيم إلى وصفه بأنه ذو الرحمة  لأن الغني وصف ذاتي لله  لا ينتفع الخلائق إلا بلوازم ذلك الوصف ، وهي جوده عليهم ؛ لأنه لا ينقص شيئا من غناه ، بخلاف صفة الرحمة فإن تعلقها ينفع الخلائق ، فأوثرت بكلمة ( ذو ) لأن ( ذو ) كلمة يتوصل بها إلى الوصف بالأجناس ، ومعناها : صاحب ، وهي تشعر بقوة أو وفرة ما تضاف إليه ، فلا يقال ذو إنصاف إلا لمن كان قوي الإنصاف ، ولا يقال ذو مال لمن عنده مال قليل ، والمقصود من الوصف بذي الرحمة هنا تمهيد لمعنى الإمهال الذي في قوله : إن يشأ يذهبكم  أي : فلا يقولن أحد لماذا لم يذهب هؤلاء المكذبين ؛ أي : أنه لرحمته أمهلهم إعذارا لهم . 
				
						
						
