استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادعوا تحريمه من لحوم الأنعام ، إلى دعوتهم لمعرفة المحرمات ، التي علمها حق وهو أحق بأن يعلموه مما اختلقوا من افترائهم وموهوا بجدلهم ، والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقام تعليم وإرشاد ، ولذلك ابتدئ بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدم آنفا .
[ ص: 156 ] وعقب بفعل : تعالوا اهتماما بالغرض المنتقل إليه بأنه أجدى عليهم من تلك السفاسف التي اهتموا بها على أسلوب قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآيات ، وقوله : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر الآية ، ليعلموا البون بين ما يدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام من جلائل الأعمال ، فيعلموا أنهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم .
وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أن الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض .
وقد تلا عليهم أحكاما كانوا جارين على خلافها مما أفسد حالهم في جاهليتهم ، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم مما يؤخذ من النهي عنها والأمر بضدها .
وقد انقسمت الأحكام التي تضمنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثلاث المفتتحة بقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى ثلاثة أقسام : الأول : أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامة بين الناس وهو ما افتتح بقوله : ( أن لا تشركوا به شيئا .
الثاني : ما به حفظ نظام تعامل الناس بعضهم مع بعض وهو المفتتح بقوله ولا تقربوا مال اليتيم .
الثالث : أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتباع طريق الإسلام والتحرز من الخروج عنه إلى سبل الضلال وهو المفتتح بقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه .
وقد ذيل كل قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله : ( ذلكم وصاكم به ) ثلاث مرات .
[ ص: 157 ] و " تعال " فعل أمر ، أصله يؤمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه ، ولعل ذلك لأنهم كانوا إذا نادوا إلى أمر مهم ارتقى المنادي على ربوة ليسمع صوته ، ثم شاع إطلاق " تعال " على طلب المجيء مجازا بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية ، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلف الاعتلاء ثم نقل إلى طلب الإقبال مطلقا ، فقيل : هو اسم فعل أمر بمعنى اقدم ؛ لأنهم وجدوه غير متصرف في الكلام إذ لا يقال : تعاليت بمعنى قدمت ، ولا تعالى إلي فلان بمعنى جاء ، وأيا ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال : تعالوا وتعالين ، وبذلك رجح جمهور النحاة أنه فعل أمر وليس باسم فعل ، ولأنه لو كان اسم فعل لما لحقته العلامات ، ولكان مثل : هلم وهيهات .
و ( أتل ) جواب ( تعالوا والتلاوة القراءة والسرد وحكاية اللفظ ، وقد تقدم عند قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان و ( أن لا تشركوا ) تفسير للتلاوة ؛ لأنها في معنى القول .
وذكرت فيما حرم الله عليهم أشياء ليست من قبيل اللحوم إشارة إلى أن الاهتمام بالمحرمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة ؛ تعريضا بصرف المشركين همتهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكف المفاسد عن الناس ، ونظيره قوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) إلى قوله : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها الآية .
وقد ذكرت المحرمات بعضها بصيغة النهي ، وبعضها بصيغة الأمر الصريح أو المؤول ؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، ونكتة الاختلاف في صيغة الطلب لهاته المعدودات سنبينها .
و ( أن ) تفسيرية لفعل أتل لأن التلاوة فيها معنى القول ، فجملة ألا تشركوا في موقع عطف بيان .
[ ص: 158 ] والابتداء بالنهي عن الإشراك ؛ لأن إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل ، والفلاح في الآجل .
وقوله : وبالوالدين إحسانا عطف على جملة أن لا تشركوا ، و إحسانا مصدر ناب مناب فعله ؛ أي : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النهي عن ضده ، وهو الإساءة إلى الوالدين ، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حرم الله ؛ لأن المحرم هو الإساءة للوالدين ، وإنما عدل عن النهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين ؛ لأن الله أراد برهما ، والبر إحسان ، والأمر به يتضمن النهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب ، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة ، فكان كثير من العرب لا يوقرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر ، فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين
وقوله : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النهي عن الوأد ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى في هذه السورة : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤكم .
و ( من ) تعليلية ، وأصلها الابتدائية ، فجعل المعلول كأنه مبتدئ من علته .
والإملاق : الفقر ، وكونه علة لقتل الأولاد يقع على وجهين ؛ أن يكون حاصلا بالفعل ، وهو المراد هنا ، وهو الذي تقتضيه ( من ) التعليلية ، وأن يكون متوقع الحصول كما قال تعالى في آية سورة الإسراء : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لأنهم كانوا يئدون بناتهم إما للعجز عن القيام بهن وإما لتوقع ذلك ، قال إسحاق بن خلف : وهو إسلامي قديم :
إذا تذكرت بنتي حين تندبني فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم أحاذر الفقر يوما أن يلم بها
فيكشف الستر عن لحم على وضم
وجملة نحن نرزقكم وإياهم معترضة مستأنفة ، علة للنهي عن قتلهم ؛ إبطالا لمعذرتهم ؛ لأن الفقر قد جعلوه عذرا لقتل الأولاد ، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعيا لقتل النفس ، فقد بين الله أنه لما خلق الأولاد فقد قدر رزقهم ، فمن الحماقة أن يظن الأب أن عجزه عن رزقهم يخوله قتلهم ، وكان الأجدر به أن يكتسب لهم .
وعدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله : ما حرم ربكم إلى طريق التكلم بضمير نرزقكم تذكيرا بالذي أمر بهذا القول كله ، حتى كأن الله أقحم كلامه بنفسه في أثناء كلام رسوله الذي أمره به ، فكلم الناس بنفسه ، وتأكيدا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم .
وذكر الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنه كما رزق الآباء فلم يموتوا جوعا ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنما اعترى الآباء فلم يقتل لأجله الأبناء .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي هنا لإفادة الاختصاص ؛ أي : نحن نرزقكم وإياهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم ، وقد بينت آنفا أن قبائل كثيرة كانت تئد البنات ، فلذلك حذروا في هذه الآية .
وجملة ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن عطف على ما قبله ، وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القريب منها ، وهو أبلغ في التحذير من النهي عن ملابستها ؛ لأن القرب من الشيء مظنة الوقوع فيه ، ولما لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مرادا به الكناية عن ملابسة الإثم أقل ملابسة ؛ لأنه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة [ ص: 160 ] في الأمكنة إذا قيل : لا تقرب منها ، فهم النهي عن القرب منها ليكون النهي عن ملابستها بالأحرى ، فلما تعذر المعنى المطابقي هنا تعينت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه .
والفواحش : الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدم بيانها عند قوله تعالى ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ) في سورة البقرة .
وما ظهر منها ما يظهرونه ولا يستخفون به ، مثل الغضب والقذف ، وما بطن ما يستخفون به وأكثره الزنا والسرقة وكانا فاشيين في العرب .
ومن المفسرين من فسر الفواحش بالزنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطن اتخاذ الأخدان سرا ، وروي هذا عن السدي ، وروي عن الضحاك وابن عباس : كان أهل الجاهلية يرون الزنا سرا حلالا ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرم الله الزنى في السر والعلانية ، وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التفسير الأول كقوله تعالى : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ولعل الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزنى قوله في سورة الإسراء في آيات عددت منهيات كبيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحدا ، وتقدم القول في ( ما ظهر وما بطن ) عند قوله تعالى : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) في هذه السورة .
وأعقب ذلك بالنهي عن قتل النفس ، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعم ، تخصيصا له بالذكر ؛ لأنه فساد عظيم ، ولأنه كان متفشيا بين العرب .
والتعريف في النفس تعريف الجنس ، فيفيد الاستغراق .
[ ص: 161 ] ووصفت بـ " التي حرم الله " تأكيدا للتحريم بأنه تحريم قديم . فإن الله حرم قتل النفس من عهد آدم ، وتعليق التحريم بالنفس : هو على وجه دلالة الاقتضاء ، أي حرم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التحريم والتحليل بأعيان الذوات أنه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذات فيه كقوله " أحلت لكم بهيمة الأنعام " أي أكلها ، ويجوز أن يكون معنى : " حرم الله " جعلها الله حرما أي شيئا محترما لا يتعدى عليه ، كقوله تعالى إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها . وفي الحديث : وإني أحرم ما بين لابتيها .
وقوله إلا الحق استثناء مفرغ من عموم أحواله ملابسة القتل ، أي لا تقتلوها في أية حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلا بسبب الحق ، فالباء للملابسة أو السببية .
والحق ضد الباطل ، هو الأمر الذي حق ، أي ثبت أنه غير باطل في حكم الشريعة ، وعند أهل العقول السليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصة ، فيكون الأمر الذي اتفقت العقول على قبوله هو ما اتفقت عليه الشرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصة على أنه يحق وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصة بأمة أو زمن .
فالتعريف في : الحق للجنس ، والمراد به ما يتحقق فيه ماهية الحق المتقدم شرحها ، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام ، وقد فصل الإسلام حق قتل النفس بالقرآن والسنة ، وهو قتل المحارب والقصاص ، وهذان بنص القرآن ، وقتل المرتد عن الإسلام بعد استتابته ، وقتل الزاني المحصن ، وقتل الممتنع من أداء الصلاة بعد إنظاره حتى يخرج وقتها ، وهذه الثلاثة وردت بها أحاديث عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ومنه القتل الناشئ عن إكراه ودفاع مأذون فيه شرعا . وذلك قتل من يقتل من البغاة وهو بنص القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي [ ص: 162 ] الزكاة وهو بإجماع الصحابة ، وأما الجهاد فغير داخل في قوله : إلا بالحق ولكن قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقا ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء .
والإشارة بقوله : ذلكم وصاكم به إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحا ، ومنه : كل أولئك كان عنه مسئولا .
وتقدم معنى الوصاية عند قوله : " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " آنفا .
وقوله : لعلكم تعقلون رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأن ملابسة بعض المحرمات ينبئ عن خساسة عقل ، بحيث ينزل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رجي أن يعقلوا .
وقوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع المحرمات وهو المحرمات الراجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعية للأمة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النوع بترك التقاتل .


