وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي  وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين  
أي : قال موسى  لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحده ومعه غلامه يوشع بن نون    . 
ومعنى اخلفني كن خلفا عني وخليفة ، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف ، فالخلافة وكالة ، وفعل خلف مشتق من الخلف بسكون اللام وهو ضد الأمام ؛ لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه ، والغائب يجعل مكانه وراءه . 
وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين  فإن سياسة الأمة تدور حول محور الإصلاح ، وهو جعل الشيء صالحا ، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة   [ ص: 88 ] بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحا ، ولا تلبث أن تئول فسادا على من لاحت عنده صلاحا ، ثم إذا تردد فعل بين كونه خيرا من جهة وشرا من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفر صلاحا ، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكن إلغاؤه وإلا تخير ، وهذا أمر لهارون  جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة . 
وقوله ولا تتبع سبيل المفسدين  تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نهي - والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه - وبين تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين . 
والإتباع أصله المشي على حلف ماش ، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسد من كان الفساد صفته ، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ؛ لأن المفسدين قد يعملون عملا لا فساد فيه ، فنهي عن المشاركة في عمل من عرف بالفساد ؛ لأن صدوره عن المعروف بالفساد كاف في توقع إفضائه إلى فساد . ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد  ، وسد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ، وقد عني بها  مالك بن أنس  وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه . 
فلا جرم أن كان قوله - تعالى - ولا تتبع سبيل المفسدين  جامعا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته . 
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ،  أو أعلمه ، ما يقتضي أن في رعية هارون  مفسدين ، وأنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون  من اللين في سياسته ، وللاحتياط من حدوث العصيان في قومه ، كما حكى الله عنه في قوله إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني  وقوله إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل    . 
 [ ص: 89 ] فليست جملة ولا تتبع سبيل المفسدين  مجرد تأكيد لمضمون جملة ( وأصلح ) تأكيدا للشيء بنفي ضده مثل قوله أموات غير أحياء لأنها لو كان ذلك هو المقصد منها لجردت من حرف العطف ، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل وأصلح لا تفسد ، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة ( وأصلح ) . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					