( أتتركون ) يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزولون عنه ، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات ، وغير ذلك مع الأمن والدعة ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : تخويف لهم ، بمعنى : أتطمعون إن كفرتم في النعم على معاصيكم ؟ وقيل : أتتركون ؟ استفهام في معنى التوبيخ ، أي أيترككم ربكم ؟ ( فيما هاهنا ) أي فيما أنتم عليه في الدنيا ( آمنين ) لا تخافون بطشه . انتهى . وما موصولة ، وهاهنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب ، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم . وفي جنات : بدل من ما هاهنا ، أجمل ثم فصل ، كما أجمل هود - عليه السلام - في قوله : ( أمدكم بما تعلمون ) ثم فصل في قوله : ( أمدكم بأنعام وبنين ) وكانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل . والهضيم ، قال ابن عباس : إذا أينع وبلغ . وقال الزهري : الرخص اللطيف أول ما يخرج . وقال الزجاج : الذي رطبه بغير نوى . وقال الضحاك : المنضد بعضه على بعض . وقيل : الرطب المذنب . وقيل : النضيج من الرطب . وقيل : الرطب المتفتت . وقيل : الحماض الطلع ، ويقارب قشرته من الجانبين من قولهم : خصر هضيم . وقيل : العذق المتدلي . وقيل : الجمار الرخو . وجاء قوله : ( ونخل ) بعد قوله : ( في جنات ) وإن كانت الجنة تتناول النخل أول شيء ، ويطلقون الجنة ، ولا يريدون بها إلا النخل ، كما قال الشاعر :
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا
أراد هنا النخل . والسحق جمع سحوق ، وهي التي ذهبت بجردتها صعدا فطالت . فأفرد ( ونخل ) بالذكر بعد اندراجه في لفظ جنات ، تنبيها على انفراده عن شجر الجنة بفضله . أو أراد " بجنات " غير النخل من الشجر ، لأن اللفظ صالح لهذه الإرادة ، ثم عطف عليه " ونخل " ، ذكرهم - تعالى - في أن وهب لهم أجود النخل وأينعه ، لأن الإناث ولادة التمر ، وطلعها فيه لطف ، والهضيم : اللطيف الضامر ، والبرني ألطف من طلع اللون . ويحتمل اللطف في الطلع أن يكون بسبب كثرة الحمل ، فإنه متى كثر لطف فكان هضيما ، وإذا [ ص: 35 ] قل الحمل جاء التمر فاخرا . ولما كانت منابت النخل جيدة ، وكان السقي لها كثيرا ، وسلمت من العاهة ، كبر الحمل بلطف الحب . وقرأ الجمهور : ( وتنحتون ) بالتاء للخطاب وكسر الحاء ؛ وأبو حيوة ، وعيسى ، والحسن : بفتحها ، وتقدم ذكره ، وعنه بألف بعد الحاء إشباعا . وعن عبد الرحمن بن محمد ، عن أبيه : بالياء من أسفل وكسر الحاء . وعن أبي حيوة ، والحسن أيضا : بالياء من أسفل وفتح الحاء . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وزيد بن علي ، والكوفيون ، وابن عامر : فارهين بألف ، وباقي السبعة : بغير ألف ؛ ومجاهد : متفرهين ، اسم فاعل من تفره ، والمعنى : نشطين مهتمين ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : شرهين . وقال ابن زيد : أقوياء . وقال ابن عباس أيضا ، وأبو عمرو بن العلاء : أشرين بطرين . وقال عبد الله بن شداد : بمعنى مستفرهين ، أي مبالغين في استجادة المغارات ليحفظوا أموالهم فيها . وقال قتادة : آمنين . وقال الكلبي : متجبرين . وقال خصيف : معجبين . وقال عكرمة : ناعمين . وقال الضحاك : كيسين . وقال أبو صالح : حاذقين . وقال ابن بحر : قادرين . وقال أبو عبيدة : مرحين .
وظاهر هذه الآيات أن الغالب على قوم هود : اللذات الخيالية من طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر ، وعلى قوم صالح : اللذات الحسية من المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة . ( ولا تطيعوا ) خطاب الجمهور قومه . والمسرفون : هم كبراؤهم وأعلامهم في الكفر والإضلال ، وكانوا تسعة رهط . ( يفسدون في الأرض ) أي أرض ثمود . وقيل : في الأرض كلها ، لأن بمعاصيهم امتناع الغيث . ولما كانوا " يفسدون " دلالته دلالة المطلق ، أتى بقوله : ( ولا يصلحون ) فنفى عنهم الصلاح ، وهو نفي لمطلق الصلاح ، فيلزم منه نفي الصلاح كائنا ما كان ، فلا يحصل منهم صلاح ألبتة . والمسحر : الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله . وقيل : من السحر ، وهو الرئة ، أي أنت بشر لا تصلح للرسالة . ويضعف هذا القول قولهم بعد : ( ما أنت إلا بشر مثلنا ) إذ تكون هذه الجملة توكيدا لما قبلها ، والأصل التأسيس . ومثلنا : أي في الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر ، فلا اختصاص لك بالرسالة .
( فأت بآية ) أي بعلامة على صحة دعواك ، وفي الكلام حذف تقديره : قال آتي بها ، قالوا : ما هي ؟ ( قال هذه ناقة . . . ) روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة تلد سقبا . فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل - عليه السلام - : صل ركعتين وسل ربك الناقة ، ففعل ؛ فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ، ونتجت سقبا مثلها في العظم . وتقدم في الأعراف طرف من قصة ثمود والناقة ، والشرب : النصيب المشروب من الماء نحو السقي . وقرأ ابن أبي عبلة : شرب ، بضم الشين فيهما ، وظاهر هذا العذاب أنه في الدنيا ، وكذا وقع وصفه بالعظم لحلول العذاب فيه ، ووصفه به أبلغ من وصف العذاب به ، لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب ، كان موقع العذاب من العظم أشد . ونسب العقر إلى جميعهم ، لكونهم راضين بذلك ، حتى روي أنهم استرضوا المرأة في خدرها والصبيان ، فرضوا جميعا .
( فأصبحوا نادمين ) لا ندم توبة ، بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب عاجلا ، وذلك عند معاينة العذاب في غير وقت التوبة . أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم حسبما كان أخبرهم به صالح - عليه السلام - وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم ، وانشقت قلوبهم ، وماتوا عن آخرهم ، وصب عليهم حجارة خلال ذلك . وقيل : كانت ندامتهم على ترك عقر الولد ، وهو قول بعيد . و " أل " في : ( فأخذهم العذاب ) للعهد في العذاب السابق ، عذاب ذلك اليوم العظيم .


