(
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=26الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=27قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ) .
[ ص: 64 ] الظاهر أنه تفقد جميع الطير ، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا . قيل : وكان يأتيه من كل صنف واحد ، فلم ير الهدهد . وقيل : كانت الطير تظله من الشمس ، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن ، فمسته الشمس ، فنظر إلى مكان الهدهد ، فلم يره . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام : أن
سليمان - عليه السلام - نزل بمفازة لا ماء فيها ، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها ، وكان يخبر
سليمان بذلك ، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة ، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة ، لاحتياجهم إلى الماء . وفي قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20وتفقد الطير ) دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم . وقال
عمر - رضي الله عنه - : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب لسئل عنها
عمر وفي الكلام محذوف ، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير .
قال
ابن عطية وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20ما لي لا أرى الهدهد ) مقصد الكلام الهدهد ، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه ، وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله : ( ما لي ) ناب مناب الألف التي تختلجها " أم " . انتهى . فظاهر هذا الكلام أن " أم " متصلة وأن الاستفهام الذي في قوله " مالي " ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه عنده : أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد ؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته ؟ وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أم هي المنقطعة ، نظر إلى مكان
[ ص: 65 ] الهدهد فلم يبصره فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20ما لي لا أرى الهدهد ) ؟ على معنى : أنه لا يراه ، وهو حاضر ، لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه سأل صحة ما لاح له ، ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ؟ انتهى . والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة ؛ لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام ، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة ، كانت " أم " منقطعة ، وهنا تقدم " ما " ، ففات شرط المتصلة . وقيل : يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره : ما للهدهد لا أراه ؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب . وفي الكشاف ، أن
سليمان لما تم له بناء بيت المقدس ، تجهز للحج ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، ثم عزم على المسير إلى
اليمن ، فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغذى ويصلي ، فلم يجد الماء ، وكان الهدهد يأتيه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض . وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21لأعذبنه عذابا شديدا ) أبهم العذاب الشديد ، وفي تعيينه أقوال متعارضة ، والأجود أن يجعل أمثلة . فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج : نتف ريشه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : ريشه كله . وقال
يزيد بن رومان : جناحه . وقال
ابن وهب : نصفه ويبقي نصفه . وقيل : يزاد مع نتفه تركه للشمس . وقيل : يحبس في القفص . وقيل : يطلى بالقطران ويشمس . وقيل : ينتف ويلقى للنمل . وقيل : يجمع مع غير جنسه . وقيل : يبعد من خدمة
سليمان - عليه السلام - . وقيل : يفرق بينه وبين إلفه . وقيل : يلزم خدمة امرأته ، وكان هذا القول من
سليمان غضبا لله ، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده ، وأباح الله له ذلك للمصلحة ، كما أباح البهائم والطيور للأكل ، وكما سخر له الطير ، فله أن يؤدبه إذا لم يأت ما سخر له .
وقرأ الجمهور : أو " ليأتيني " بنون مشددة بعدها ياء المتكلم ،
وابن كثير : بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء ؛
وعيسى بن عمر : بنون مشددة مفتوحة بغير ياء . والسلطان المبين : الحجة والعذر ، وفيه دليل على الإغلاظ على العاصين وعقابهم . وبدأ أولا بأخف العقابين ، وهو التعذيب ؛ ثم أتبعه بالأشد ، وهو إذهاب المهجة بالذبح ، وأقسم على هذين لأنهما من فعله ، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بأو ، كأنه قال : ليكونن أحد الثلاثة ، والمعنى : إن أتى بالسلطان ، لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإلا كان أحدهما . ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان ، فيكون قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21أو ليأتيني بسلطان مبين ) عن دراية وإيقان .
وقرأ الجمهور : فمكث ، بضم الكاف ؛
وعاصم ،
وأبو عمرو في رواية
الجعفي ،
وسهل ،
وروح : بضمها . وفي قراءة
أبي : فيمكث ، ثم قال : وفي قراءة
عبد الله : فيمكث ، فقال : وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة ، لمخالفة ذلك سواد المصحف ، وما روي عنهما بالنقل الثابت . والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد ، أي غير زمن بعيد ، أي عن قرب . ووصف مكثه بقصر المدة ، للدلالة على إسراعه ، خوفا من
سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله . وقيل : وقف مكانا غير بعيد من
سليمان ، وكأنه فيما روي ، حين نزل
سليمان حلق الهدهد ، فرأى هدهدا ، فانحط عليه ووصف له ملك
سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك
بلقيس وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر . وقيل : الضمير في فمكث
لسليمان . وقيل : يحتمل أن يكون
لسليمان وللهدهد ، وفي الكلام حذف ، فإن كان غير بعيد زمانا ، فالتقدير : فجاء
سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكانا ، فالتقدير : فجاء فوقف مكانا قريبا من
سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه
سليمان ، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن غيبته كانت لأمر
[ ص: 66 ] عظيم عرض له ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22أحطت بما لم تحط به ) وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه بذلك ، وإبهامه حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو . ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علما ليس عند نبي الله
سليمان .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ألهم الله الهدهد ، فكافح
سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به
سليمان ، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته ، لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة " إن الإمام لا يخفى عليه شيء " ، ولا يكون في زمانه أعلم منه . انتهى .
ولما أبهم في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22بما لم تحط ) انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) ؛ إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر مستيقن له . وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفا ، هذا وفي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15لقد كان لسبأ )
وابن كثير ،
وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير مصروف فيهما ، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما . فمن صرفه جعله اسما للحي أو الموضع أو للأب ، كما في حديث
فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374762 " أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة . ( والستة ) : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛ ( والأربعة ) : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان . وكان سبأ رجلا من
قحطان اسمه
عبد شمس . وقيل :
عامر ، وسمي سبأ لأنه أول من سبا ، ومن منعه الصرف جعله اسما للقبيلة أو البقعة ، وأنشدوا على الصرف :
الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن سكن الهمزة ، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف ، وإجراء للوصل مجرى الوقف . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي . انتهى . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : من سبأ ، بكسر الهمزة من غير تنوين ، حكاها عنه
ابن خالويه وابن عطية ، ويبعد توجيهها . وقرأ
ابن كثير في رواية : من سبا ، بتنوين الباء على وزن رحى ، جعله مقصورا مصروفا . وذكر
أبو معاذ أنه قرأ من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة ، بناه على فعلى ، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم . وروى
ابن حبيب ، عن
اليزيدي : من سبأ ، بألف ساكنة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبأ . وقرأت فرقة : بنبا ، بألف عوض الهمزة ، وكأنها قراءة من قرأ : سبا ، بالألف ، لتتوازن الكلمتان ، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين . وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد ، وفي كتاب التفريع بفنون البديع . إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، ويسمى أيضا التصدير ، فمثال الأول قوله :
سريع إلى ابن العم يجبر كسره وليس إلى داعي الخنا بسريع
ومثال الثاني قوله :
والليالي إذا نأيتم طوال والليالي إذا دنوتم قصار
وذكر أن مثل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22من سبإ بنبإ ) يسمى تجنيس التصريف ، قال : وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ، ومنه قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=75ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ) وما ورد في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10372569 " الخيل معقود في نواصيها الخير " . وقال الشاعر :
لله ما صنعت بنا تلك المعاجر والمحاجر
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22من سبإ بنبإ ) من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن
[ ص: 67 ] الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعا ، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده . ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة ، فحسن وبدع لفظا ومعنى . ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحا ؟ وهو كما جاء أصح ، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . انتهى . والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ، ولفظ الخبر مطلق ، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن .
ولما أبهم الهدهد أولا ، ثم أبهم ثانيا دون ذلك الإبهام ، صرح بما كان أبهمه فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23إني وجدت امرأة تملكهم ) . ولا يدل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23تملكهم ) على جواز أن تكون المرأة ملكة ؛ لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس ، وهم كفار ، فلا حجة في ذلك . وفي صحيح البخاري ، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374763 " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " . ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16935محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح عنه . ونقل عن
أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، لا على الإطلاق ، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة . ومعنى وجدت هنا : أصبت ، والضمير في تملكهم عائد على سبأ ، إن كان أريد القبيلة ، وإن أريد الموضع ، فهو على حذف ، أي وجئتك من أهل سبأ .
والمرأة
بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك اليمن كلها ، وقد ولده أربعون ملكا ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس . واختلف في اسم أبيها اختلافا كثيرا . قيل : وكانت أمها جنية تسمى
ريحانة بنت السكن ، تزوجها أبوها ، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحدا من ملوك زمانه ، فولدت له
بلقيس ، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ، ولا الحديث الصحيح .
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها ، وأنها أوتيت من كل شيء ، وهذا على سبيل المبالغة ، والمعنى : من كل شيء احتاجت إليه ، أو من كل شيء في أرضها . وبين قول الهدهد ذلك ، وبين قول
سليمان : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16وأوتينا من كل شيء ) فرق ، وذلك أن
سليمان عطف على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16علمنا منطق الطير ) وهو معجزة ، فيرجع أولا إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطف الهدهد على الملك ، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23ولها عرش عظيم ) قال
ابن زيد : هو مجلسها . وقال سفيان : هو كرسيها ، وكان مرصعا بالجواهر ، وعليه سبعة أبواب . وذكروا من وصف عرشها أشياء ، الله هو العالم بحقيقة ذلك ، واستعظام الهدهد عرشها ، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش ، وإما لأن
سليمان لم يكن له مثله ، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء ، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته .
ولما كان
سليمان قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم ، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك . ولم يلتفت
سليمان لذلك ، إذ كان معرضا عن أمور الدنيا . فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولا باطلاعه على ما لم يطلع عليه
سليمان ، تحصنا من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ، فتشوف السامع إلى علم ذلك . ثم أخبرنا ثانيا بتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ . ثم أخبر ثالثا عن الملك الذي أوتيته امرأة ، وكان
سليمان - عليه السلام - قد سأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده . ثم أخبر رابعا ما ظاهره الاشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وأوتيت من كل شيء ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23ولها عرش عظيم ) وكان
سليمان له بساط قد صنع له ، وكان عظيما . ولما لم يتأثر
سليمان للإخبار بهذا كله ، إذ هو أمر دنياوي ، أخبره خامسا بما يهزه لطلب
[ ص: 68 ] هذه الملكة ، ودعائها إلى الإيمان بالله ، وإفراده بالعبادة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوسا يعبدون الأنوار ، وهو قول
الحسن . وقيل : كانوا زنادقة .
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن
سليمان ، وعرف أن مقصد
سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به ، فكان ذلك عذرا واضحا أزال عنه العقوبة التي كان
سليمان قد توعده بها . وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين ؛ إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام
سليمان بما كان خافيا عنه ، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها . وخفي ملك هذه المرأة ومكانها على
سليمان ، وإن كانت المسافة بينهما قريبة ، كما خفي ملك
يوسف على
يعقوب ، وذلك لأمر أراده الله - تعالى - . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ومن نوكى القصاص من يقف على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23ولها عرش ) ثم يبتدئ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23عظيم وجدتها يريد " أمر عظيم " أن وجدتها ، فر من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله . انتهى . وقال أيضا ( فإن قلت ) : من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له ، وإنكار السجود للشمس ، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ ( قلت ) : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء يهتدون لها . ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصا في زمان نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . انتهى .
وأسند التزيين إلى الشيطان ، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فصدهم عن السبيل ) أي الشيطان ، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فهم لا يهتدون ) أي إلى الحق . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وأبو جعفر ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
والسلمي ،
والحسن ،
وحميد ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : ألا ، بتخفيف لام الألف ، فعلى هذا له أن يقف على : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فهم لا يهتدون ) ويبتدئ على : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25ألا يسجدوا ) . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وإن شاء وقف على ألا ثم ابتدأ اسجدوا ، وباقي السبعة : بتشديدها ، وعلى هذا يصل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فهم لا يهتدون ) بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25ألا يسجدوا ) . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وفي حرف
عبد الله ، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن
عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا تسجدون ، على الخطاب . وفي قراءة
أبي : " ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون " انتهى . وقال
ابن عطية : وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : هلا يسجدون ؛ وفي حرف
عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة
أبي : ألا تسجدون ، بالتاء أيضا ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ، فتخريجها واضح . وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25ألا يسجدوا ) في موضع نصب ، على أن يكون بدلا من قوله : ( أعمالهم ) أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا . وما بين المبدل منه والبدل معترض ، أو في موضع جر ، على أن يكون بدلا من السبيل ، أي فصدهم عن أن لا يسجدوا . وعلى هذا التخريج تكون " لا " زائدة ، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله ، ويكون (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فهم لا يهتدون ) معترضا بين المبدل منه والبدل ، ويكون التقدير : لأن لا يسجدوا . وتتعلق اللام إما بزين ، وإما بقصدهم ، واللام الداخلة على " أن " داخلة على مفعول له ، أي علة تزيين الشيطان لهم ، أو صدهم عن السبيل ، هي انتفاء سجودهم لله ، أو لخوفه أن يسجدوا لله . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ويجوز أن تكون " لا " مزيدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . انتهى . وأما قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومن وافقه ، فخرجت على أن تكون " ألا " حرف استفتاح ، ويا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، واسجدوا فعل أمر ، وسقطت ألف " يا " التي للنداء ، وألف الوصل في اسجدوا ، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقطا لفظا سقطا خطا . ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب . قال الشاعر :
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد
وقال :
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال
[ ص: 69 ] وقال :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى
وقال :
ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر وإن كان جبانا عدا آخر الدهر
وسمع بعض العرب يقول :
ألا يا ارحمونا ألا تصدقوا علينا
ووقف
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي في هذه القراءة على " يا " ثم يبتدئ اسجدوا ، وهو وقف اختيار لا اختبار ، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست " يا " فيه للنداء ، وحذف المنادى ؛ لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ؛ لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه . ولو حذفنا المنادى ، لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه وهو المنادى ، فكان ذلك إخلالا كبيرا . وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه ، كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء . وليس حرف النداء حرف جواب ، كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ؛ فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة . فـ " يا " عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به " ألا " التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ، ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
والمتفقي اللفظ العاملين في قوله :
ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين ، وهما مختلفا اللفظ ، يكون جائزا ، وليس " يا " في قوله :
يا لعنة الله والأقوام كلهم
حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ( فإن قلت ) : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا ، أو في واحدة منهما : ( قلت ) : هي واجبة فيهما ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك ؛ وما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه ، انتهى . والخبء : مصدر أطلق على المخبوء ، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه . وقرأ الجمهور : الخبء ، بسكون الباء والهمزة . وقرأ
أبي ،
وعيسى : بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة . وقرأ
عكرمة : بألف بدل الهمزة ، فلزم فتح ما قبلها ، وهي قراءة
عبد الله ،
nindex.php?page=showalam&ids=16871ومالك بن دينار . ويخرج على لغة من يقول في الوقف : هذا الخبو ، ومررت بالخبي ، ورأيت الخبا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . وأجاز
الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة : المراة والكماة ، فيبدل من الهمزة ألفا ، فتفتح ما قبلها ، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه . قيل : وهي لغة ضعيفة ، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضا نادر قليل ، فيعادل التخريجان . ونقل الحركة إلى الباء ، وحذف الهمزة ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، عن قوم من
بني تميم وبني أسد . وقراءة الخبا بالألف ، طعن فيها
أبو حاتم وقال : لا يجوز في العربية ، قال : لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : الخب ، وإن حولها قال : الخبي ، بسكون الباء وياء بعدها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : كان
أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه . والظاهر أن (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25في السماوات ) متعلق بالخبء ، أي المخبوء في السماوات . وقال
الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم . انتهى . فعلى هذا يتعلق بيخرج ، أي من في السماوات .
( ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره ، وألهمه الله - تعالى - ذلك ، كان وصفه ربه - تعالى - بهذا الوصف الذي هو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25الذي يخرج الخبء ) إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة ، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله ، ولذلك ورد ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله . وقرأ الحرميان والجمهور : ما يخفون وما
[ ص: 70 ] يعلنون ، بياء الغيبة ، والضمير عائد على المرأة وقومها . وقرأ الكسائي وحفص : بتاء الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطابا
لسليمان - عليه السلام - والحاضرين معه ، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد
لسليمان ، وهما ليس معهما أحد . وكما جاز له أن يخاطبه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22أحطت بما لم تحط به ) جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25ما تخفون وما تعلنون ) بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب . والظاهر أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25ألا يسجدوا ) إلى العظيم من كلام الهدهد . وقيل : من كلام الله - تعالى - لأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال
ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله - عز وجل - لأمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال صاحب الغنيان : لما ذكر الهدهد عرش
بلقيس ووصفه بالعظم ، رد الله - عز وجل - عليه وبين أن عرشه - تعالى - هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة ، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة . وقيل : إنه من تمام كلام الهدهد ، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف سوى الهدهد بين عرش
بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم ؟ ( قلت ) : بين الوصفين فرق ؛ لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض . انتهى . وقرأ
ابن محيصن وجماعة : العظيم بالرفع ، فاحتمل أن تكون صفة للعرش ، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح ، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى . واحتمل أن تكون صفة للرب ، وخص العرش بالذكر ، لأنه أعظم المخلوقات ، وما عداه في ضمنه .
ولما فرغ الهدهد من كلامه ، وأبدى عذره في غيبته ، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=27سننظر أصدقت ) في إخبارك أم كذبت . والنظر هنا : التأمل والتصفح ، و " أصدقت " : جملة معلق عنها " سننظر " ، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، لأن نظر ، بمعنى التأمل والتفكر ، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في . وعادل بين الجملتين بأم ، ولم يكن التركيب أم كذبت ؛ لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=27أم كنت من الكاذبين ) أبلغ في نسبة الكذب إليه ؛ لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب ، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به . وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب ، كان متهما فيما أخبر به ، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به . وفي الكلام حذف تقديره : فأمر بكتابة كتاب إليهم ، وبذهاب الهدهد رسولا إليهم بالكتاب ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28اذهب بكتابي هذا ) أي الحاضر المكتوب الآن . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28فألقه إليهم ثم تول عنهم ) أي تنح عنهم إلى مكان قريب ، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول .
وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام ، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام . وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب . وقال
وهب : أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به الملوك ، بمعنى : وكن قريبا بحيث تسمع مراجعاتهم . وقال
ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ، أي ألقه وارجع . قال : وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28فانظر ماذا يرجعون ) في معنى التقديم على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28ثم تول عنهم ) . انتهى . وقاله
أبو علي ، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير ، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم . وقرئ في السبعة : فألقه ، بكسر الهاء وياء بعدها ، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء . وقرأ
مسلم بن جندب : بضم الهاء وواو بعدها ، وجمع في قوله : ( إليهم ) الهدهد قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وجدتها وقومها ) . وفي الكتاب أيضا ضمير الجمع في قوله : ( أن لا تعلوا علي ) والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام
لبلقيس وقومها . ومعنى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28فانظر ماذا يرجعون ) أي تأمل واستحضره في ذهنك . وقيل معناه : فانتظر . ماذا : إن كان معنى فانظر معنى
[ ص: 71 ] التأمل بالفكر ، كان انظر معلقا ، وماذا : إما كلمة استفهام في موضع نصب ، وإما أن تكون ما استفهاما وذا موصول بمعنى الذي . فعلى الأول يكون " يرجعون " خبرا عن " ماذا " ، وعلى الثاني يكون " ذا " هو الخبر و " يرجعون " صلة " ذا " . وإن كان معنى فانظر : فانتظر ، فليس فعل قلب فيعلق ، بل يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي ، أي فانتظر الذي يرجعون ، والمعنى : فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلي ما يرجعون من القول .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=26اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=27قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ) .
[ ص: 64 ] الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفَقَّدَ جَمِيعَ الطَّيْرِ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِنَايَةُ بِأُمُورِ الْمُلْكِ وَالِاهْتِمَامِ بِالرَّعَايَا . قِيلَ : وَكَانَ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَرَ الْهُدْهُدَ . وَقِيلَ : كَانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَسْتُرُ مَكَانَهُ الْأَيْمَنَ ، فَمَسَّتْهُ الشَّمْسُ ، فَنَظَرَ إِلَى مَكَانِ الْهُدْهُدِ ، فَلَمْ يَرَهُ . وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=106عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ : أَنَّ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلَ بِمَفَازَةٍ لَا مَاءَ فِيهَا ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَرَى ظَاهِرَ الْأَرْضِ وَبَاطِنَهَا ، وَكَانَ يُخْبِرُ
سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ ، فَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْرِجُهُ فِي سَاعَةٍ تَسْلُخُ الْأَرْضَ كَمَا تُسْلَخُ الشَّاةُ ، فَسَأَلَ عَنْهُ حِينَ حَلُّوا تِلْكَ الْمَفَازَةَ ، لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ . وَفِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) دَلَالَةٌ عَلَى تَفَقُّدِ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَوْ أَنَّ سَخْلَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَسُئِلَ عَنْهَا
عُمَرُ وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ ، أَيْ فَقَدَ الْهُدْهُدَ حِينَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ .
قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ) مَقْصِدُ الْكَلَامِ الْهُدْهُدُ ، غَابَ وَلَكِنَّهُ أَخَذَ اللَّازِمَ عَنْ مَغِيبِهِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَاهُ ، فَاسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ عَنِ اللَّازِمِ ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ وَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ : ( مَا لِيَ ) نَابَ مَنَابَ الْأَلِفِ الَّتِي تَخْتَلِجُهَا " أَمْ " . انْتَهَى . فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ " أَمْ " مُتَّصِلَةٌ وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ " مَالِيَ " نَابَ مَنَابَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ : أَغَابَ عَنِّي الْآنَ فَلَمْ أَرَهُ حَالَةَ التَّفَقُّدِ ؟ أَمْ كَانَ مِمَّنْ غَابَ قَبْلُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِغَيْبَتِهِ ؟ وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ ، نَظَرَ إِلَى مَكَانِ
[ ص: 65 ] الْهُدْهُدِ فَلَمْ يُبْصِرْهُ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=20مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ) ؟ عَلَى مَعْنَى : أَنَّهُ لَا يَرَاهُ ، وَهُوَ حَاضِرٌ ، لِسَاتِرٍ سَتَرَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ غَائِبٌ ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَقُولُ : أَهْوَ غَائِبٌ ؟ كَأَنَّهُ سَأَلَ صِحَّةَ مَا لَاحَ لَهُ ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ : إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ ؟ انْتَهَى . وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَمْ فِي هَذَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمُتَّصِلَةِ تَقَدُّمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ ، فَلَوْ تَقَدَّمَهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ الْهَمْزَةِ ، كَانَتْ " أَمْ " مُنْقَطِعَةً ، وَهُنَا تَقَدَّمَ " مَا " ، فَفَاتَ شَرْطُ الْمُتَّصِلَةِ . وَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَقْلُوبِ وَتَقْدِيرُهُ : مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ ؟ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ . وَفِي الْكَشَّافِ ، أَنَّ
سُلَيْمَانَ لَمَّا تَمَّ لَهُ بِنَاءُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، تَجَهَّزَ لِلْحَجِّ ، فَوَافَى الْحَرَمَ وَأَقَامَ بِهِ مَا شَاءَ ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى
الْيَمَنِ ، فَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ صَبَاحًا يَؤُمُّ سُهَيْلًا ، فَوَافَى صَنْعَاءَ وَقْتَ الزَّوَالِ ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، فَرَأَى أَرْضًا حَسْنَاءَ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَتُهَا ، فَنَزَلَ لِيَتَغَذَّى وَيُصَلِّيَ ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَأْتِيهِ ، وَكَانَ يَرَى الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ . وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ الْجِنُّ يَسْلُخُونَ الْأَرْضَ حَتَّى يَظْهَرَ الْمَاءُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) أَبْهَمَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ ، وَفِي تَعْيِينِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُجْعَلَ أَمْثِلَةً . فَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَمُجَاهِدٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وَابْنِ جُرَيْجٍ : نَتَفَ رِيشَهُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنُ جُرَيْجٍ : رِيشَهُ كُلَّهُ . وَقَالَ
يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ : جَنَاحَهُ . وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : نَصِفَهُ وَيُبْقَي نِصْفَهُ . وَقِيلَ : يُزَادُ مَعَ نَتْفِهِ تَرْكُهُ لِلشَّمْسِ . وَقِيلَ : يُحْبَسُ فِي الْقَفَصِ . وَقِيلَ : يُطْلَى بِالْقَطِرَانِ وَيُشَمَّسُ . وَقِيلَ : يُنْتَفُ وَيُلْقَى لِلنَّمْلِ . وَقِيلَ : يُجْمَعُ مَعَ غَيْرِ جِنْسِهِ . وَقِيلَ : يُبْعَدُ مِنْ خِدْمَةِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ . وَقِيلَ : يُلْزَمُ خِدْمَةَ امْرَأَتِهِ ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ
سُلَيْمَانَ غَضَبًا لِلَّهِ ، حَيْثُ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَطَلَبَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْهُ ، وَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ ، كَمَا أَبَاحَ الْبَهَائِمَ وَالطُّيُورَ لِلْأَكْلِ ، وَكَمَا سَخَّرَ لَهُ الطَّيْرَ ، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهُ إِذَا لَمْ يَأْتِ مَا سُخِّرَ لَهُ .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ : أَوْ " لَيَأْتِيَنِّي " بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ ،
وَابْنُ كَثِيرٍ : بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا نُونُ الْوِقَايَةِ بَعْدَ الْيَاءِ ؛
وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ : بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بِغَيْرِ يَاءٍ . وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ : الْحُجَّةُ وَالْعُذْرُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِغْلَاظِ عَلَى الْعَاصِينَ وَعِقَابِهِمْ . وَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَخَفِّ الْعِقَابَيْنِ ، وَهُوَ التَّعْذِيبُ ؛ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَشَدِّ ، وَهُوَ إِذْهَابُ الْمُهْجَةِ بِالذَّبْحِ ، وَأَقْسَمَ عَلَى هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِهِ ، وَأَقْسَمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالسُّلْطَانِ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ لَمَّا نَظَمَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحُكْمِ بِأَوْ ، كَأَنَّهُ قَالَ : لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ ، وَالْمَعْنَى : إِنْ أَتَى بِالسُّلْطَانِ ، لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبٌ وَلَا ذَبْحٌ ، وَإِلَّا كَانَ أَحَدُهُمَا . وَلَا يَدُلُّ قَسَمُهُ عَلَى الْإِتْيَانِ عَلَى ادِّعَاءِ دِرَايَةٍ ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَ حَلِفُهُ بِالْفِعْلَيْنِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ بِسُلْطَانٍ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) عَنْ دِرَايَةٍ وَإِيقَانٍ .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ : فَمَكَثَ ، بِضَمِّ الْكَافِ ؛
وَعَاصِمٌ ،
وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ
الْجُعْفِيِّ ،
وَسَهْلٌ ،
وَرَوْحٌ : بِضَمِّهَا . وَفِي قِرَاءَةِ
أُبَيٍّ : فَيَمْكُثُ ، ثُمَّ قَالَ : وَفِي قِرَاءَةِ
عَبْدِ اللَّهِ : فَيَمْكُثُ ، فَقَالَ : وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ سَوَادَ الْمُصْحَفِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُمَا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَمَكَثَ عَائِدٌ عَلَى الْهُدْهُدِ ، أَيْ غَيْرَ زَمَنٍ بَعِيدٍ ، أَيْ عَنْ قُرْبٍ . وَوُصِفَ مُكْثُهُ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِهِ ، خَوْفًا مِنْ
سُلَيْمَانَ ، وَلِيُعْلَمَ كَيْفَ كَانَ الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ ، وَلِبَيَانِ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَعَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ . وَقِيلَ : وَقَفَ مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ
سُلَيْمَانَ ، وَكَأَنَّهُ فِيمَا رُوِيَ ، حِينَ نَزَلَ
سُلَيْمَانُ حَلَّقَ الْهُدْهُدُ ، فَرَأَى هُدْهُدًا ، فَانْحَطَّ عَلَيْهِ وَوَصَفَ لَهُ مُلْكَ
سُلَيْمَانَ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَذَكَرَ لَهُ صَاحِبُهُ مُلْكَ
بَلْقِيسَ وَعَظَّمَ مِنْهُ ، وَذَهَبَ مَعَهُ لِيَنْظُرَ ، فَمَا رَجَعَ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ . وَقِيلَ : الضَّمِيرُ فِي فَمَكَثَ
لِسُلَيْمَانَ . وَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
لِسُلَيْمَانَ وَلِلْهُدْهُدِ ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ زَمَانًا ، فَالتَّقْدِيرُ : فَجَاءَ
سُلَيْمَانُ ، فَسَأَلَهُ : مَا غَيَّبَكَ ؟ فَقَالَ : أَحَطْتُ ؛ وَإِنْ كَانَ مَكَانًا ، فَالتَّقْدِيرُ : فَجَاءَ فَوَقَفَ مَكَانًا قَرِيبًا مِنْ
سُلَيْمَانَ ، فَسَأَلَهُ : مَا غَيَّبَكَ ؟ وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ قَدْ عَلِمَ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ
سُلَيْمَانُ ، فَبَادَرَ إِلَى جَوَابِهِ بِمَا يُسَكِّنُ غَيْظَهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّ غَيْبَتَهُ كَانَتْ لِأَمْرٍ
[ ص: 66 ] عَظِيمٍ عَرَضَ لَهُ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) وَفِي هَذَا جَسَارَةُ مَنْ لَدَيْهِ عِلْمٌ ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَتَبَجُّحُهُ بِذَلِكَ ، وَإِبْهَامُهُ حَتَّى تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمُبْهَمِ مَا هُوَ . وَمَعْنَى الْإِحَاطَةِ هُنَا : أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ
سُلَيْمَانَ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : أَلْهَمَ اللَّهُ الْهُدْهُدَ ، فَكَافَحَ
سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْكَلَامَ ، عَلَى مَا أُوتِيَ مِنْ فَضْلِ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعُلُومِ الْجَمَّةِ وَالْإِحَاطَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْكَثِيرَةِ ، ابْتِلَاءً لَهُ فِي عِلْمِهِ ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي أَدْنَى خَلْقِهِ وَأَضْعَفِهِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ
سُلَيْمَانُ ، لِتَتَحَاقَرَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيَصْغُرَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ ، وَيَكُونَ لُطْفًا لَهُ فِي تَرْكِ الْإِعْجَابِ الَّذِي هُوَ فِتْنَةُ الْعُلَمَاءِ ، وَأَعْظِمْ بِهَا فِتْنَةً ، وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ عِلْمًا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ ، لَا يَخْفَى مِنْهُ مَعْلُومٌ ، قَالُوا : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ " إِنَّ الْإِمَامَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ " ، وَلَا يَكُونُ فِي زَمَانِهِ أَعْلَمُ مِنْهُ . انْتَهَى .
وَلَمَّا أَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22بِمَا لَمْ تُحِطْ ) انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ إِبْهَامًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ؛ إِذْ فِيهِ إِخْبَارٌ بِالْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ لَهُ عِلْمٌ بِخَبَرٍ مُسْتَيْقِنٍ لَهُ . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ : مِنْ سَبَأٍ ، مَصْرُوفًا ، هَذَا وَفِي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ )
وَابْنُ كَثِيرٍ ،
وَأَبُو عَمْرٍو : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، غَيْرَ مَصْرُوفٍ فِيهِمَا ، وَقُنْبُلٌ مِنْ طَرِيقِ النَّبَّالِ : بِإِسْكَانِهَا فِيهِمَا . فَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ أَوِ الْمَوْضِعِ أَوْ لِلْأَبِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ
فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ وَغَيْرِهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374762 " أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ . ( وَالسِّتَّةُ ) : حِمْيَرٌ ، وَكِنْدَةُ ، وَالْأَزْدُ ، وَأَشْعَرُ ، وَخَثْعَمٌ ، وَبَجِيلَةُ ؛ ( وَالْأَرْبَعَةُ ) : لَخْمٌ ، وَجُذَامٌ ، وَعَامِلَةُ ، وَغَسَّانُ . وَكَانَ سَبَأٌ رَجُلًا مِنْ
قَحْطَانَ اسْمُهُ
عَبْدُ شَمْسٍ . وَقِيلَ :
عَامِرٌ ، وَسُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَا ، وَمَنْ مَنَعَهُ الصَّرْفَ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ أَوِ الْبُقْعَةِ ، وَأَنْشَدُوا عَلَى الصَّرْفِ :
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ
وَمَنْ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ ، فَلِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ فِيمَنْ مَنَعَ الصَّرْفَ ، وَإِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17140مَكِّيٌّ : الْإِسْكَانُ فِي الْوَصْلِ بَعِيدٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ وَلَا قَوِيٍّ . انْتَهَى . وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الْأَعْمَشُ : مِنْ سَبَأِ ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، حَكَاهَا عَنْهُ
ابْنُ خَالَوَيْهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ ، وَيَبْعُدُ تَوْجِيهُهَا . وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ : مِنْ سَبًا ، بِتَنْوِينِ الْبَاءِ عَلَى وَزْنِ رَحًى ، جَعَلَهُ مَقْصُورًا مَصْرُوفًا . وَذَكَرَ
أَبُو مُعَاذٍ أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ سَبْأَ : بِسُكُونِ الْبَاءِ وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ ، بَنَاهُ عَلَى فَعْلَى ، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ . وَرَوَى
ابْنُ حَبِيبٍ ، عَنِ
الْيَزِيدِيِّ : مِنْ سَبَأْ ، بِأَلِفٍ سَاكِنَةٍ ، كَقَوْلِهِمْ : تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأْ . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ : بِنَبَا ، بِأَلِفٍ عِوَضَ الْهَمْزَةِ ، وَكَأَنَّهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ : سَبَا ، بِالْأَلِفِ ، لِتَتَوَازَنَ الْكَلِمَتَانِ ، كَمَا تَوَازَنَتْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا بِالْهَمْزِ الْمَكْسُورِ وَالتَّنْوِينِ . وَقَالَ فِي التَّحْرِيرِ : إِنَّ هَذَا النَّوْعَ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى بِالتَّرْدِيدِ ، وَفِي كِتَابِ التَّفْرِيعِ بِفُنُونِ الْبَدِيعِ . إِنَّ التَّرْدِيدَ رَدُّ أَعْجَازِ الْبُيُوتِ عَلَى صُدُورِهَا ، أَوْ رَدُّ كَلِمَةٍ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ إِلَى النِّصْفِ الثَّانِي ، وَيُسَمَّى أَيْضًا التَّصْدِيرُ ، فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ :
سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ يَجْبُرُ كَسْرَهُ وَلَيْسَ إِلَى دَاعِي الْخَنَا بِسَرِيعِ
وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ :
وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالُ وَاللَّيَالِي إِذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وَذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ ) يُسَمَّى تَجْنِيسَ التَّصْرِيفِ ، قَالَ : وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=75ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10372569 " الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ " . وَقَالَ الشَّاعِرُ :
لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا تِلْكَ الْمَعَاجِرُ وَالْمَحَاجِرُ
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ ) مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُحَدِّثُونَ الْبَدِيعَ ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ
[ ص: 67 ] الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَجِيءَ مَطْبُوعًا ، أَوْ بِصِيغَةِ عَالِمٍ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ ، يُحْفَظُ مَعَهُ صِحَّةُ الْمَعْنَى وَسَدَادُهُ . وَلَقَدْ جَاءَ هَاهُنَا زَائِدًا عَلَى الصِّحَّةِ ، فَحَسُنَ وَبَدُعَ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَلَا تَرَى لَوْ وُضِعَ مَكَانَ بِنَبَأٍ بِخَبَرٍ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا ؟ وَهُوَ كَمَا جَاءَ أَصَحُّ ، لِمَا فِي النَّبَأِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يُطَابِقُهَا وَصْفُ الْحَالِ . انْتَهَى . وَالزِّيَادَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ أَنَّ النَّبَأَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْخَبَرَ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ مُطْلَقٌ ، يَنْطَلِقُ عَلَى مَالِهِ شَأْنٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ .
وَلَمَّا أَبْهَمَ الْهُدْهُدُ أَوَّلًا ، ثُمَّ أَبْهَمَ ثَانِيًا دُونَ ذَلِكَ الْإِبْهَامِ ، صَرَّحَ بِمَا كَانَ أَبْهَمَهُ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) . وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23تَمْلِكُهُمْ ) عَلَى جَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ بِلْقِيسَ ، وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374763 " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً " . وَنُقِلَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16935مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ . وَنُقِلَ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ ، لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَا أَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَسْطُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَكُّمِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ . وَمَعْنَى وَجَدْتُ هُنَا : أَصَبْتُ ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمْلِكُهُمْ عَائِدٌ عَلَى سَبَأٍ ، إِنْ كَانَ أُرِيدَ الْقَبِيلَةُ ، وَإِنْ أُرِيدَ الْمَوْضِعُ ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ ، أَيْ وَجِئْتُكَ مِنْ أَهْلِ سَبَأٍ .
وَالْمَرْأَةُ
بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكَ الْيَمَنِ كُلِّهَا ، وَقَدْ وَلَدَهُ أَرْبَعُونَ مَلِكًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا ، فَغَلَبَتْ عَلَى الْمُلْكِ ، وَكَانَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ . وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا . قِيلَ : وَكَانَتْ أُمُّهَا جِنِّيَّةً تُسَمَّى
رَيْحَانَةَ بِنْتَ السَّكَنِ ، تَزَوَّجَهَا أَبُوهَا ، إِذْ كَانَ مِنْ عِظَمِهِ لَمْ يَرَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ مُلُوكِ زَمَانِهِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ
بِلْقِيسُ ، وَقَدْ طَوَّلُوا فِي قَصَصِهَا بِمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَبَدَأَ الْهُدْهُدُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ مُلْكِهَا ، وَأَنَّهَا أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ ، وَالْمَعْنَى : مِنْ كُلِّ شَيْءٍ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ ، أَوْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي أَرْضِهَا . وَبَيْنَ قَوْلِ الْهُدْهُدِ ذَلِكَ ، وَبَيْنَ قَوْلِ
سُلَيْمَانَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فَرْقٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ
سُلَيْمَانَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) وَهُوَ مُعْجِزَةٌ ، فَيَرْجِعُ أَوَّلًا إِلَى مَا أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَأَسْبَابِ الدِّينِ ، ثُمَّ إِلَى الْمُلْكِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا ، وَعَطَفَ الْهُدْهُدُ عَلَى الْمُلْكِ ، فَلَمْ يُرِدْ إِلَّا مَا أُوتِيَتْ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا اللَّائِقَةِ بِحَالِهَا . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ : هُوَ مَجْلِسُهَا . وَقَالَ سُفْيَانُ : هُوَ كُرْسِيُّهَا ، وَكَانَ مُرَصَّعًا بِالْجَوَاهِرِ ، وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ . وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ عَرْشِهَا أَشْيَاءَ ، اللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ ، وَاسْتِعْظَامُ الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا ، إِمَّا لِاسْتِصْغَارِ حَالِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلُ هَذَا الْعَرْشِ ، وَإِمَّا لِأَنَّ
سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمَمْلَكَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْأَطْرَافِ شَيْءٌ لَا يَكُونُ لِلْمَلِكِ الَّذِي هُوَ تَحْتَ طَاعَتِهِ .
وَلَمَّا كَانَ
سُلَيْمَانُ قَدْ آتَاهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَكَانَ لَهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ ، أَخْبَرَهُ بِهَذَا النَّبَأِ الْعَظِيمِ ، حَيْثُ كَانَ فِي الدُّنْيَا مَنْ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ . وَلَمْ يَلْتَفِتْ
سُلَيْمَانُ لِذَلِكَ ، إِذْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا . فَانْتَقَلَ الْهُدْهُدُ إِلَى الْإِخْبَارِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ ، وَمَا أَحْسَنَ انْتِقَالَاتِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بَعْدَ تَهَدُّدِ الْهُدْهُدِ وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ ، أَخْبَرَ أَوَّلًا بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ
سُلَيْمَانُ ، تَحَصُّنًا مِنَ الْعُقُوبَةِ ، بِزِينَةِ الْعِلْمِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ ، فَتَشَوَّفَ السَّامِعُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ . ثُمَّ أَخْبَرَنَا ثَانِيًا بِتَعَلُّقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ سَبَأٍ ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، فَزَادَ تَشَوُّفُ السَّامِعِ إِلَى سَمَاعِ ذَلِكَ النَّبَأِ . ثُمَّ أَخْبَرَ ثَالِثًا عَنِ الْمُلْكِ الَّذِي أُوتِيَتْهُ امْرَأَةٌ ، وَكَانَ
سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ . ثُمَّ أَخْبَرَ رَابِعًا مَا ظَاهِرُهُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا وَلَا شَأْنِ النِّسَاءِ أَنْ تَمْلِكَ فُحُولَ الرِّجَالِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) وَكَانَ
سُلَيْمَانُ لَهُ بِسَاطٌ قَدْ صُنِعَ لَهُ ، وَكَانَ عَظِيمًا . وَلَمَّا لَمْ يَتَأَثَّرْ
سُلَيْمَانُ لِلْإِخْبَارِ بِهَذَا كُلِّهِ ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ دُنْيَاوِيٌّ ، أَخْبَرَهُ خَامِسًا بِمَا يَهُزُّهُ لِطَلَبِ
[ ص: 68 ] هَذِهِ الْمَلِكَةِ ، وَدُعَائِهَا إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ : إِنَّهُمْ كَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الْأَنْوَارَ ، وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ . وَقِيلَ : كَانُوا زَنَادِقَةً .
وَهَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ مِنَ الْهُدْهُدِ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ عَنْ غَيْبَتِهِ عَنْ
سُلَيْمَانَ ، وَعَرَفَ أَنَّ مَقْصِدَ
سُلَيْمَانَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا وَاضِحًا أَزَالَ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي كَانَ
سُلَيْمَانُ قَدْ تَوَعَّدَهُ بِهَا . وَقَامَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ مَقَامَ الْإِيقَانِ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ ؛ إِذْ كَانَ فِي غَيْبَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِإِعْلَامِ
سُلَيْمَانَ بِمَا كَانَ خَافِيًا عَنْهُ ، وَمَآلُهُ إِلَى إِيمَانِ الْمَلِكَةِ وَقَوْمِهَا . وَخَفِيَ مُلْكُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَمَكَانُهَا عَلَى
سُلَيْمَانَ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا قَرِيبَةً ، كَمَا خَفِيَ مُلْكُ
يُوسُفَ عَلَى
يَعْقُوبَ ، وَذَلِكَ لِأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَمِنْ نَوْكَى الْقُصَّاصِ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وَلَهَا عَرْشٌ ) ثُمَّ يَبْتَدِئُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا يُرِيدُ " أَمْرٌ عَظِيمٌ " أَنْ وَجَدْتُهَا ، فَرَّ مِنَ اسْتِعْظَامِ الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا ، فَوَقَعَ فِي عَظِيمَةٍ وَهِيَ مَسْخُ كِتَابِ اللَّهِ . انْتَهَى . وَقَالَ أَيْضًا ( فَإِنْ قُلْتَ ) : مِنْ أَيْنَ لِلْهُدْهُدِ الْهُدَى إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوُجُوبِ السُّجُودِ لَهُ ، وَإِنْكَارِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ ؟ ( قُلْتُ ) : لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْهِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ، كَمَا أَلْهَمَهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَعَارِفَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لَا تَكَادُ الْعُقَلَاءُ يَهْتَدُونَ لَهَا . وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْرَاءَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْحَيَوَانِ خُصُوصًا فِي زَمَانِ نَبِيٍّ سُخِّرَتْ لَهُ الطُّيُورُ وَعُلِّمَ مَنْطِقَهَا ، وَجُعِلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ . انْتَهَى .
وَأُسْنِدَ التَّزْيِينُ إِلَى الشَّيْطَانِ ، إِذْ كَانَ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) أَيِ الشَّيْطَانُ ، أَوْ تَزْيِينُهُ عَنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) أَيْ إِلَى الْحَقِّ . وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ ،
وَأَبُو جَعْفَرٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300وَالزُّهْرِيُّ ،
وَالسُّلَمِيُّ ،
وَالْحَسَنُ ،
وَحُمَيْدٌ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ : أَلَا ، بِتَخْفِيفِ لَامِ الْأَلِفِ ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) وَيَبْتَدِئَ عَلَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25أَلَا يَسْجُدُوا ) . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ عَلَى أَلَا ثُمَّ ابْتَدَأَ اسْجُدُوا ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ : بِتَشْدِيدِهَا ، وَعَلَى هَذَا يَصِلُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25أَلَا يَسْجُدُوا ) . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَفِي حَرْفِ
عَبْدِ اللَّهِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الْأَعْمَشِ : هَلَّا وَهَلَا ، بِقَلْبِ الْهَمْزَتَيْنِ هَاءً ، وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ : هَلَا يَسْجُدُونَ ، بِمَعْنَى : أَلَا تَسْجُدُونَ ، عَلَى الْخِطَابِ . وَفِي قِرَاءَةِ
أُبَيٍّ : " أَلَا تَسْجُدُونَ لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ " انْتَهَى . وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الْأَعْمَشُ : هَلَّا يَسْجُدُونَ ؛ وَفِي حَرْفِ
عَبْدِ اللَّهِ : أَلَا هَلْ تَسْجُدُونَ ، بِالتَّاءِ ، وَفِي قِرَاءَةِ
أُبَيٍّ : أَلَا تَسْجُدُونَ ، بِالتَّاءِ أَيْضًا ؛ فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ أَثْبَتَ النُّونَ فِي يَسْجُدُونَ ، وَقَرَأَ بِالتَّاءِ أَوِ الْيَاءِ ، فَتَخْرِيجُهَا وَاضِحٌ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ فَخَرَجَتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25أَلَا يَسْجُدُوا ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ : ( أَعْمَالَهُمْ ) أَيْ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنْ لَا يَسْجُدُوا . وَمَا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ مُعْتَرِضٌ ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ السَّبِيلِ ، أَيْ فَصَدَّهُمْ عَنْ أَنْ لَا يَسْجُدُوا . وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ تَكُونُ " لَا " زَائِدَةً ، أَيْ فَصَدَّهُمْ عَنْ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ ، وَيَكُونُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : لِأَنْ لَا يَسْجُدُوا . وَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ إِمَّا بِزَيَّنَ ، وَإِمَّا بِقَصْدِهِمْ ، وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى " أَنْ " دَاخِلَةٌ عَلَى مَفْعُولٍ لَهُ ، أَيْ عِلَّةُ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ ، أَوْ صَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ ، هِيَ انْتِفَاءُ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ ، أَوْ لِخَوْفِهِ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " لَا " مَزِيدَةً ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى أَنْ يَسْجُدُوا . انْتَهَى . وَأَمَّا قِرَاءَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ، فَخَرَجَتْ عَلَى أَنْ تَكُونَ " أَلَا " حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ ، وَيَا حَرْفُ نِدَاءٍ ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ ، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ ، وَسَقَطَتْ أَلِفُ " يَا " الَّتِي لِلنِّدَاءِ ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ فِي اسْجُدُوا ، إِذْ رَسْمُ الْمُصْحَفِ يَسْجُدُوا بِغَيْرِ أَلِفَيْنِ لَمَّا سَقَطَا لَفْظًا سَقَطَا خَطًّا . وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ . قَالَ الشَّاعِرُ :
أَلَا يَا اسْلَمِي ذَاتَ الدَّمَالِجِ وَالْعِقْدِ
وَقَالَ :
أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ
[ ص: 69 ] وَقَالَ :
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَى
وَقَالَ :
أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ حَبْلِ أَبِي بَكْرِ
فَقَالَتْ أَلَا يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بِخُطْبَةٍ فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي
وَقَالَ :
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرِ وَإِنْ كَانَ جَبَانًا عَدَا آخِرَ الدَّهْرِ
وَسُمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ :
أَلَا يَا ارْحَمُونَا أَلَا تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا
وَوَقَفَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى " يَا " ثُمَّ يَبْتَدِئُ اسْجُدُوا ، وَهُوَ وَقْفُ اخْتِيَارٍ لَا اخْتِبَارٍ ، وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الْوَارِدِ عَنِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ " يَا " فِيهِ لِلنِّدَاءِ ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى ؛ لِأَنَّ الْمُنَادَى عِنْدِي لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ فِي النِّدَاءِ ، وَانْحَذَفَ فَاعِلُهُ لِحَذْفِهِ . وَلَوْ حَذَفْنَا الْمُنَادَى ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَذْفُ جُمْلَةِ النِّدَاءِ ، وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمُنَادَى ، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا كَبِيرًا . وَإِذَا أَبْقَيْنَا الْمُنَادَى وَلَمْ نَحْذِفْهُ ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّدَاءِ . وَلَيْسَ حَرْفُ النِّدَاءِ حَرْفَ جَوَابٍ ، كَنَعَمْ ، وَلَا ، وَبَلَى ، وَأَجَلْ ؛ فَيَجُوزُ حَذْفُ الْجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْجُمَلِ الْمَحْذُوفَةِ . فَـ " يَا " عِنْدِي فِي تِلْكَ التَّرَاكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أُكِّدَ بِهِ " أَلَا " الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ ، وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ ، وَلِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وُجِدَ التَّأْكِيدُ فِي اجْتِمَاعِ الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ :
فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
وَالْمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ :
وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ
وَجَازَ ذَلِكَ ، وَإِنْ عَدُّوهُ ضَرُورَةً أَوْ قَلِيلًا ، فَاجْتِمَاعُ غَيْرِ الْعَامِلَيْنِ ، وَهُمَا مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ ، يَكُونُ جَائِزًا ، وَلَيْسَ " يَا " فِي قَوْلِهِ :
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ
حَرْفَ نِدَاءٍ عِنْدِي ، بَلْ حَرْفُ تَنْبِيهٍ جَاءَ بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ ، وَلَيْسَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُنَادَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : ( فَإِنْ قُلْتَ ) : أَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةٌ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا ، أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا : ( قُلْتُ ) : هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا ، وَإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ ، وَالْأُخْرَى ذَمٌّ لِلتَّارِكِ ؛ وَمَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ مِنْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ فَغَيْرُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ ، انْتَهَى . وَالْخَبْءُ : مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَخْبُوءِ ، وَهُوَ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا خَبَّأَهُ تَعَالَى مِنْ غُيُوبِهِ . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ : الْخَبْءُ ، بِسُكُونِ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ . وَقَرَأَ
أُبَيٌّ ،
وَعِيسَى : بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الْبَاءِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ . وَقَرَأَ
عِكْرِمَةُ : بِأَلِفٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ ، فَلَزِمَ فَتْحُ مَا قَبْلَهَا ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
عَبْدِ اللَّهِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16871وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ . وَيَخْرُجُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَقْفِ : هَذَا الْخَبْوُ ، وَمَرَرْتُ بِالْخَبْيِ ، وَرَأَيْتُ الْخَبَا ، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ . وَأَجَازَ
الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَقُولَ فِي الْمَرْأَةِ وَالْكَمْأَةِ : الْمَرَاةُ وَالْكَمَاةُ ، فَيُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا ، فَتُفْتَحُ مَا قَبْلَهَا ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبْأُ مِنْهُ . قِيلَ : وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ ، وَإِجْرَاءُ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ أَيْضًا نَادِرٌ قَلِيلٌ ، فَيُعَادِلُ التَّخْرِيجَانِ . وَنَقْلُ الْحَرَكَةِ إِلَى الْبَاءِ ، وَحَذْفُ الْهَمْزَةِ ، حَكَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ ، عَنْ قَوْمٍ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ . وَقِرَاءَةُ الْخَبَا بِالْأَلِفِ ، طَعَنَ فِيهَا
أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ : لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، قَالَ : لِأَنَّهُ إِنْ حَذَفَ الْهَمْزَةَ أَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْبَاءِ فَقَالَ : الْخَبَ ، وَإِنْ حَوَّلَهَا قَالَ : الْخَبْيَ ، بِسُكُونِ الْبَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15153الْمُبَرِّدُ : كَانَ
أَبُو حَاتِمٍ دُونَ أَصْحَابِهِ فِي النَّحْوِ ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلْدَتِهِمْ لَمْ يُلْقَ أَعْلَمُ مِنْهُ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25فِي السَّمَاوَاتِ ) مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبْءِ ، أَيِ الْمَخْبُوءَ فِي السَّمَاوَاتِ . وَقَالَ
الْفَرَّاءُ فِي وَمَنْ يَتَعَاقَبَانِ بِقَوْلِ الْعَرَبِ : لَأَسْتَخْرِجَنَّ الْعِلْمَ فِيكُمْ ، يُرِيدُ مِنْكُمْ . انْتَهَى . فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِيَخْرُجَ ، أَيْ مِنْ فِي السَّمَاوَاتِ .
( وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ قَدْ أُوتِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ ، وَأَلْهَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ ، كَانَ وَصْفُهُ رَبَّهُ - تَعَالَى - بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) إِذْ كُلٌّ مُخْتَصٌّ بِوَصْفٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَخَايِلُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي رُوَائِهِ وَمَنْطِقِهِ وَشَمَائِلِهِ ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ مَا عَمِلَ عَبْدٌ عَمَلًا إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ رِدَاءَ عَمَلِهِ . وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْجُمْهُورُ : مَا يُخْفُونَ وَمَا
[ ص: 70 ] يُعْلِنُونَ ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَوْمِهَا . وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ : بِتَاءِ الْخِطَابِ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا
لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَاضِرِينَ مَعَهُ ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مُحَاوَرَةُ الْهُدْهُدِ
لِسُلَيْمَانَ ، وَهُمَا لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ . وَكَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) جَازَ أَنْ يُخَاطِبَهُ وَالْحَاضِرِينَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) بَلْ خِطَابُهُ بِهَذَا لَيْسَ فِيهِ ظُهُورُ شُغُوفٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْخِطَابِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=25أَلَا يَسْجُدُوا ) إِلَى الْعَظِيمِ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ . وَقِيلَ : مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : الْقِرَاءَةُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ تُعْطِي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ ، وَبِتَاءِ الْخِطَابِ تُعْطِي أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأُمَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ : لَمَّا ذَكَرَ الْهُدْهُدُ عَرْشَ
بِلْقِيسَ وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ ، رَدَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّ عَرْشَهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَرْشٌ دُونَهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْعَظَمَةِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْهُدْهُدِ ، كَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ وَرَدَّ الْعَظَمَةَ مِنْ عَرْشِ بِلْقِيسَ إِلَى عَرْشِ اللَّهِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : ( فَإِنْ قُلْتَ ) : كَيْفَ سَوَّى الْهُدْهُدُ بَيْنَ عَرْشِ
بِلْقِيسَ وَعَرْشِ اللَّهِ فِي الْوَصْفِ بِالْعِظَمِ ؟ ( قُلْتُ ) : بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فَرْقٌ ؛ لِأَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُرُوشِ أَبْنَاءِ جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ ، وَوَصْفَ عَرْشِ اللَّهِ بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . انْتَهَى . وَقَرَأَ
ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَجَمَاعَةٌ : الْعَظِيمُ بِالرَّفْعِ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْعَرْشِ ، وَقُطِعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ ، فَتَسْتَوِي قِرَاءَتُهُ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي الْمَعْنَى . وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ ، وَخُصَّ الْعَرْشُ بِالذِّكْرِ ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَمَا عَدَاهُ فِي ضِمْنِهِ .
وَلَمَّا فَرَغَ الْهُدْهُدُ مِنْ كَلَامِهِ ، وَأَبْدَى عُذْرَهُ فِي غَيْبَتِهِ ، أَخَّرَ سُلَيْمَانُ أَمْرَهُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=27سَنَنْظُرُ أَصْدَقْتَ ) فِي إِخْبَارِكَ أَمْ كَذَبْتَ . وَالنَّظَرُ هُنَا : التَّأَمُّلُ وَالتَّصَفُّحُ ، وَ " أَصَدَقْتَ " : جُمْلَةٌ مُعَلَّقٌ عَنْهَا " سَنَنْظُرُ " ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ ، لِأَنَّ نَظَرَ ، بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ فِي . وَعَادَلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَمْ ، وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ أَمْ كَذَبْتَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=27أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أَبْلَغُ فِي نِسْبَةِ الْكَذِبِ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ ، سَابِقٌ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ . وَإِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ لَهُ الْوَصْفُ بِالْكَذِبِ ، كَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ ، بِخِلَافِ مَنْ يُظَنُّ ابْتِدَاءً كَذِبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ . وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ : فَأَمَرَ بِكِتَابَةِ كِتَابٍ إِلَيْهِمْ ، وَبِذَهَابِ الْهُدْهُدِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا ) أَيِ الْحَاضِرِ الْمَكْتُوبِ الْآنَ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ) أَيْ تَنَحَّ عَنْهُمْ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ ، بِحَيْثُ تَسْمَعُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الْقَوْلِ .
وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ) دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ الْكُتُبِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِمَامِ ، يُبَلِّغُهُمُ الدَّعْوَةَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ . وَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا مُلُوكِ الْعَرَبِ . وَقَالَ
وَهْبٌ : أَمْرُهُ بِالتَّوَلِّي حُسْنُ أَدَبٍ لِيَتَنَحَّى حَسَبَ مَا يَتَأَدَّبُ بِهِ الْمُلُوكُ ، بِمَعْنَى : وَكُنْ قَرِيبًا بِحَيْثُ تَسْمَعُ مُرَاجَعَاتِهِمْ . وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ : أَمَرَهُ بِالتَّوَلِّي بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ ، أَيْ أَلْقِهِ وَارْجِعْ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ) فِي مَعْنَى التَّقْدِيمِ عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ) . انْتَهَى . وَقَالَهُ
أَبُو عَلِيٍّ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ النَّظَرَ مُعْتَقِبٌ التَّوَلِّيَ عَنْهُمْ . وَقُرِئَ فِي السَّبْعَةِ : فَأَلْقِهِ ، بِكَسْرِ الْهَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا ، وَبِاخْتِلَاسِ الْكَسْرَةِ وَبِسُكُونِ الْهَاءِ . وَقَرَأَ
مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ : بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَاوٍ بَعْدَهَا ، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ : ( إِلَيْهِمْ ) الْهُدْهُدُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=24وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا ) . وَفِي الْكِتَابِ أَيْضًا ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ : ( أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَيَّ ) وَالْكِتَابُ كَانَ فِيهِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ
لِبِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا . وَمَعْنَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=28فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ) أَيْ تَأَمَّلْ وَاسْتَحْضِرْهُ فِي ذِهْنِكَ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ : فَانْتَظِرْ . مَاذَا : إِنْ كَانَ مَعْنَى فَانْظُرْ مَعْنَى
[ ص: 71 ] التَّأَمُّلِ بِالْفِكْرِ ، كَانَ انْظُرْ مُعَلَّقًا ، وَمَاذَا : إِمَّا كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي . فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ " يَرْجِعُونَ " خَبَرًا عَنْ " مَاذَا " ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ " ذَا " هُوَ الْخَبَرُ وَ " يَرْجِعُونَ " صِلَةَ " ذَا " . وَإِنْ كَانَ مَعْنَى فَانْظُرْ : فَانْتَظِرْ ، فَلَيْسَ فِعْلُ قَلْبٍ فَيُعَلَّقُ ، بَلْ يَكُونُ مَاذَا كُلُّهُ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي ، أَيْ فَانْتَظِرِ الَّذِي يَرْجِعُونَ ، وَالْمَعْنَى : فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ حَتَّى تَرُدَّ إِلَيَّ مَا يَرْجِعُونَ مِنَ الْقَوْلِ .