( لآتينا كل نفس هداها ) أي : اخترعنا الإيمان فيها ، كقوله : ( أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) و ( لجمعهم على الهدى ) و ( لجعل الناس أمة واحدة ) . وقال الزمخشري : على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر . ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله : ( فذوقوا بما نسيتم ) ؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها . والمراد بالنسيان خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة ، وسلط عليكم نسيانها . ثم قال : ( إنا نسيناكم ) على المقابلة : أي : جازيناكم جزاء نسيانكم . وقيل : هو بمعنى الترك ، قاله ابن عباس وغيره ، أي : تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة . انتهى . وقوله : على طريق الإلجاء والقسر ، هو قول المعتزلة . وقالت الإمامية : يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ، ولم يعاقب أحدا ، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم ، فلا يجب على الله هداية الكل إليها . قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ; فأما من له ذنب ، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله ، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان . انتهى . و ( هذا ) صفة لـ : ( يومكم ) ، ومفعول ( فذوقوا ) محذوف ، أو مفعول ( فذوقوا ) هذا العذاب بسبب نسيانكم ( لقاء يومكم هذا ) وهو ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم ; أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم . وفي استئناف قوله : ( إنا نسيناكم ) وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم .
( إنما يؤمن بآياتنا ) أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى ، من سجودهم عند التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم ; بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير ، وقول الهجر ، وإظهار التكبر ; وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن . وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع . وروي عن ابن جريج : المسجد مكان الركوع ، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ، ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع ، واستدل بقوله : ( وخر راكعا وأناب ) . ( تتجافى جنوبهم ) أي : ترتفع وتتنحى ، يقال : جفا الرجل الموضع : تركه . قال عبد الله بن رواحة :
نبي تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الزجاج والرماني : التجافي : التنحي إلى جهة فوق . والمضاجع : أماكن الاتكاء للنوم ، الواحد مضجع ، أي : هم منتبهون لا يعرفون نوما . وقال الجمهور : المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل ، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم . وفي الحديث ، ذكر قيام الليل ، ثم استشهد بالآية ، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك : تجافي الجنب : هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة . وقال الحسن : هو التهجد ; وقال أيضا : هو وعطاء : هو العتمة . وفي الترمذي ، عن أنس : نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة . وقال قتادة ، وعكرمة : التنفل ما بين المغرب والعشاء ( يدعون ) حال ، أو مستأنف خوفا وطمعا ، مفعول من أجله ، أو مصدران في موضع الحال . والظاهر أن الدعاء هو : الابتهال إلى الله ، وقيل : الصلاة .
وقرأ الجمهور : ( ما أخفي لهم ) فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ; وحمزة ، والأعمش ، ويعقوب : بسكون الياء ، فعلا مضارعا للمتكلم ; وابن مسعود : " وما نخفي " ، بنون العظمة ; والأعمش أيضا : " أخفيت " . وقرأ محمد بن كعب : " ما أخفى " ، فعلا ماضيا مبنيا للفاعل . وقرأ الجمهور : ( من قرة ) على الإفراد . وقرأ عبد الله ، وأبو الدرداء ، وأبو [ ص: 203 ] هريرة ، وعوف العقيلي : " من قرات " ، على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش ; و ( ما أخفي ) يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية ، فيكون ( تعلم ) متعلقة . والجملة في موضع المفعول ، إن كان ( تعلم ) مما عدي لواحد ; وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين ، وتقدم تفسيره في ( قرة عين ) في طه وفي الحديث ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرءوا إن شئتم : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) " . وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره . ( ولا تعلم نفس ) نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع الأنفس مما ادخر الله تعالى لأولئك ، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم ، لا يعلمه إلا هو ، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها ، بل ولا تفاصيلها . وقال الحسن : أخفوا اليوم أعمالا في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت . ( جزاء بما كانوا يعملون ) وهو تعالى الموفق للعمل الصالح . وقال الزمخشري : فحسم أطماع المتمنين . انتهى ، وهذه نزعة اعتزالية .
( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ) قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة . تلاحما ، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لسانا ، وأحد سنانا ، وأرد للكتيبة . فقال له علي : اسكت ، فإنك فاسق . قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما . وقال الزجاج ، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط . فعلى هذا تكون الآية مكية ; لأن عقبة لم يكن بالمدينة ، وإنما قتل بطريق مكة ، منصرف بدر . والجمع في ( لا يستوون ) والتقسيم بعده ، حمل على معنى " من " . وقيل : ( لا يستوون ) لاثنين ، وهو المؤمن والفاسق ، والتثنية جمع . وقال الزجاج : ونزول الآية في علي والوليد ، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد . والجمهور : ( جنات ) بالجمع . وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس ، قال : يأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش . وقرأ الجمهور : ( نزلا ) بضم الزاي ; وأبو حيوة : بإسكانها . والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاما فيما يعد للضيف . ( وأما الذين فسقوا ) أي : بالكفر ( فمأواهم النار ) . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي : النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ، كقوله : ( فبشرهم بعذاب أليم ) . انتهى وهذا فيه بعد . وإنما يذهب إلى مثل ( فبشرهم ) إذا كان مصرحا به فيقول : قام مقام التبشير العذاب ، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع . أما أن تضمر شيئا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار ، فليس بجيد .
و ( العذاب الأدنى ) قال أبي ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال . وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ، نحو يوم بدر . وقال مجاهد : القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر . وقال النخعي ، ومقاتل : هو السنون التي أجاعهم الله فيها . وقال ابن عباس أيضا : هو الحدود . وقال أبي أيضا : هو البطشة واللزام والدخان . و ( العذاب الأكبر ) قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة . وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار . وقيل : هو القتل والسبي والأسر . وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف . ( لعلهم يرجعون ) قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب . وقال أبو العالية : لعلهم يتوبون . وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان . وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله : ( فارجعنا نعمل صالحا ) . وسميت إرادة الرجوع رجوعا ، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) . انتهى . ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر . لكن الأدنى يتضمن الأصغر ; لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ، وهو العذاب العاجل . والأكبر يتضمن الأبعد ; لأنه واقع في الآخرة ، [ ص: 204 ] والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف .
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة ؟ ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر ؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي ; وأما أفعال عباده ، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو لا يختارها ; لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالا على عجزك . انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة ، وقد رد عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام . ( ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ) بخلاف المؤمنين ، إذا ذكروا بها خروا سجدا . ( ثم أعرض عنها ) قال الزمخشري : ثم للاستبعاد ، والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل ; والعادة ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ، ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز ، ومنه " ثم " في بيت الشاعر :
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها . انتهى . ( من المجرمين ) عام في كل من أجرم ، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم ; والإجرام هنا : هو : الكفر . وقال يزيد بن رفيع : هي في أهل القدر ، وقرأ : ( إن المجرمين ) إلى قوله : ( بقدر ) . وفي الحديث : " ثلاث من كن فيه فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالما " .


