[ ص: 256 ] كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم ، أم كلثوم ، وهي بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد ، فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول الله حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض الله العهد في النساء ، وأنزل فيهن الآية ، وحكم بحكم رضوه كلهم . وقيل : سبب نزولها فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت الحديبية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي . وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بيانا أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وذكر أن سبب نزولها أبو نعيم الأصبهاني أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف ، امرأة حسان بن الدحداحة ، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن ، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان .
وقرئ : مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات ، وامتحانهن ، قالت عائشة : بآية المبايعة . وقيل : بأن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وقال : بالحلف أنها ما خرجت إلا حبا لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام . وقال ابن عباس أيضا ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة : كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها ، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة . ( الله أعلم بإيمانهن ) : لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد ، ( فإن علمتموهن ) : أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات بالخروج من الوطن والحلول في قوم ليسوا من قومها ، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن ، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر .
وقرأ وطلحة : لا هن يحلان لهم ، وانعقد التحريم بهذه الجملة ، وجاء قوله : ( ولا هم يحلون لهن ) [ ص: 257 ] على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة ، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر ، علم أنه لا حل بينهما ألبتة . وقيل : أفاد قوله : ( ولا هم يحلون لهن ) استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل ، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان . ( وآتوهم ما أنفقوا ) : أمر أن يعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت ، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية . قال : أعطى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بعد امتحانها زوجها الكافر ما أنفق عليها ، فتزوجها ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وكان إذا امتحنهن ، أعطى أزواجهن مهورهن . وقال عمر بن الخطاب قتادة : الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليه الصداق ، والأمر كما قال قتادة ، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين إياهن إذا آتوهن مهورهن ، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان .
وقرأ الجمهور : ( تمسكوا ) مضارع أمسك ، كأكرم ; وأبو عمرو ومجاهد : بخلاف عنه ; وابن جبير والحسن : مضارع مسك مشددا ; والأعرج والحسن أيضا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ : تمسكوا بفتح الثلاثة ، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا ; والحسن أيضا : تمسكوا بكسر السين ، مضارع مسك ثلاثيا . وقال الكرخي : ( الكوافر ) ، يشمل الرجال والنساء ، فقال له أبو علي الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، جمع كافرة ، وقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ قال أبو علي : فبهت فقلت : هذا تأييد . انتهى . وهذا الكرخي معتزلي فقيه ، وأبو علي معتزلي ، فأعجبه هذا التخريج ، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعا لموصوفها ، أو يكون محذوفا مرادا ، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث . والعصم جمع عصمة ، وهي سبب البقاء في الزوجية . ( واسألوا ما أنفقتم ) : أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم ، ( وليسألوا ) : أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين .
ولما تقرر هذا الحكم ، قالت قريش ، فيما روي : لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : ( وإن فاتكم ) ، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين ، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام ، ما كان مهرها . قال : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوض منه تغليظا في هذا الحكم وتشديدا فيه . انتهى . واللاتي ارتددن من نساء الزمخشري المهاجرين ولحقن بالكفار : أم الحكم بنت أبي سفيان زوج عياض بن شداد الفهري ; وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، زوج رضي الله تعالى عنه . عمر بن الخطاب وعبدة بنت عبد العزى ، زوج ; هشام بن العاصي وأم كلثوم بنت جرول ، زوج عمر أيضا . وذكر أنهن ست ، فذكر : الزمخشري أم الحكم ، وفاطمة بنت أبي أمية زوج ، عمر بن الخطاب وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود ، وكلثوم وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت ، أعطى أزواجهن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، مهورهن من الغنيمة . هشام بن العاصي
وقرأ الجمهور ( فعاقبتم ) بألف ; ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني : بشد القاف ; والنخعي أيضا والأعرج وأبو حيوة أيضا أيضا والزهري وابن وثاب : بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة ; ومسروق والنخعي أيضا أيضا : بكسرها ; والزهري ومجاهد أيضا : فأعقبتم على وزن أفعل ، يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب ، قال :
[ ص: 258 ]
وحاردت النكد الجلاد ولم يكن لعقبة قدر المستعيرين يعقب
وعقب : أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففا . وقال : فعاقبتم من العقبة ، وهي النوبة . شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . ( الزمخشري فآتوا ) من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا يؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن ، يعطى من صداق من لحق بهم . ومعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم من عقبه إذا قفاه ، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . انتهى . وقال الزهري : فعاقبتم : قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، وفسر غيرها من القراءات : لكانت العقبى لكم : أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم ، والكفار من قوله : ( إلى الكفار ) ، ظاهره العموم في جميع الكفار ، قاله الزجاج قتادة ومجاهد . قال قتادة : ثم نسخ هذا الحكم . وقال : يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال ابن عباس : من مال الفيء ; وعنه : من صداق من لحق بنا . وقيل : الكفار مخصوص بأهل العهد . وقال الزهري : اقتطع هذا يوم الفتح . وقال الزهري : لا يعمل به اليوم . وقال الثوري مقاتل : كان في عهد الرسول فنسخ . وقال ابن عطية : هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها . وقال : كان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة . وقال أبو بكر بن العربي القاضي القشيري : قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن .
( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ) : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا ، بعدما فرغ من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط . : كنت في النسوة المبايعات ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه الصلاة والسلام : " إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن " أسماء بنت يزيد بن السكن . وكانت وقالت هند بنت عتبة في النساء ، فقرأ عليهن الآية . فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئا ، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ تعني أن هذا بين لزومه . فلما وقف على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ، لا أدري أيحل لي ذلك ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما عبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وعرفها ، فقال لها : " وإنك لهند بنت عتبة " ، قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك . فقال : ( ولا يزنين ) ، فقالت : أوتزني الحرة ؟ قال : ( ولا يقتلن أولادهن ) ، فقالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ولا يأتين ببهتان ) ، فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : ( ولا يعصينك في معروف ) ، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . ومعنى قول هند : أوتزني الحرة . أنه كان في قريش في الإماء غالبا ، وإلا فالبغايا ذوات الرايات قد كن حرائر . وقرأ علي والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشددا ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك . والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . ( بين أيديهن وأرجلهن ) : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين . وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولدا قد ولدته ، أو ألحقت بها ولدا لم تلده . وقيل : البهتان : السحر . [ ص: 259 ] وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن ; فروجهن . وقيل : بين أيديهن قبلة أو جسة ، وأرجلهن الجماع . ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما ائتمن عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهي عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها . وروي أن قوما من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوما مغضوبا عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم وزيد بن أسلم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب الله قد صار عرفا لهم . وقال : كفار ابن عباس قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من الله . وقيل : اليهود والنصارى . ( قد يئسوا من الآخرة ) ، قال : من خيرها وثوابها . والظاهر أن من في ( ابن عباس من أصحاب القبور ) لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور . فمن الثانية كالأولى من الآخرة . فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم . وقال : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر . انتهى . والكفار على هذا كفار ابن عرفة مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبدا ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن . وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله ، لأنه إذا كان حيا لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد . وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر . انتهى . وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف . وقرأ : كما يئس الكافر على الإفراد . والجمهور : على الجمع . ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيدا لترك مولاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودة إليهم . ابن أبي الزناد