تنبيه 
في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف ، وهو أن يقال : إن قول أيوب  المذكور في " الأنبياء " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الضر  وفي " ص " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب  يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه ، مع أن قوله تعالى عنه : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب    [ 38 \ 44 ] يدل على كمال صبره 
والجواب أن ما صدر من أيوب  دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه  ، لا شكوى ولا جزع . 
قال أبو عبد الله القرطبي  في تفسير هذه الآية الكريمة : ولم يكن قوله : مسني الضر  جزعا ؛ لأن الله تعالى قال : إنا وجدناه صابرا  بل كان ذلك دعاء منه . والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ، والدعاء لا ينافي الرضا . قال الثعلبي    : سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب  يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ، فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب  كان شكاية وقد قال الله تعالى : إنا وجدناه صابرا  فقلت : ليس هذا شكاية ، وإنما كان دعاء ، بيانه فاستجبنا له والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء . فاستحسنوه وارتضوه . وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال . انتهى منه . 
ودعاء أيوب  المذكور ذكره الله في سورة " الأنبياء " من غير أن يسند مس الضر أيوب  إلى الشيطان في قوله : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين  وذكره في سورة " ص " وأسند ذلك إلى الشيطان في قوله : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب  والنصب على جميع القراءات معناه : التعب والمشقة ، والعذاب : الألم . وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة " ص " هذه إشكال قوي معروف ؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب  من الأنبياء الكرام ، كقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون    [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى : وما كان له   [ ص: 239 ] عليهم من سلطان  الآية [ 34 \ 21 ] وقوله تعالى مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي    [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين    [ 15 \ 42 ] . 
وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ، منها ما ذكره  الزمخشري  قال : 
فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟ 
قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . 
وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين . وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه . وقيل . أعجب بكثرة ماله . انتهى منه . 
ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب  ، فأهلك الشيطان ماله وولده ، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له ، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها ، فصار في جسده ثآليل ، فحكها بأظافره حتى دميت ، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه ، وعصم الله قلبه ولسانه ( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله ممكن ، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ، كمداهنة الملك المذكور ، وعدم إغاثة الملهوف ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون . وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه ، وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلا . 
وغاية ما دل عليه القرآن أن الله ابتلى نبيه أيوب  عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر ، ووهبه أهله ومثلهم معهم ، وأن أيوب  نسب   [ ص: 240 ] ذلك في " ص " إلى الشيطان . ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ابتلاء ليظهر صبره الجميل ، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة ، ويرجع له كل ما أصيب فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب  ؛ لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض ، وذلك يقع للأنبياء ، فإنهم يصيبهم المرض ، وموت الأهل ، وهلاك المال لأسباب متنوعة . ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء ، وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض ، والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة " طه " وقول الله لنبيه أيوب  في سورة " ص " : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث    [ 38 \ 44 ] قال المفسرون فيه : إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط ، فأمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به ليخرج من يمينه ، والضغث : الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك . والمعنى : أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود ، فيضربها بها ضربة واحدة ، فيخرج بذلك من يمينه . وقد قدمنا في سورة " الكهف " الاستدلال بآية ولا تحنث    [ 38 \ 44 ] على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛ إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب    : قل إن شاء الله ليكون ذلك استثناء في يمينك . 
				
						
						
