قوله تعالى : الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . اعلم أن خبر " إن " في قوله هنا : إن الذين كفروا [ 22 \ 25 ] محذوف كما ترى .
والذي تدل عليه الآية أن التقدير : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ، نذيقهم من عذاب أليم . كما دل على هذا قوله في آخر الآية : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
فإن قيل : ما وجه عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي ، في قوله : إن الذين كفروا ويصدون .
فالجواب من أربعة أوجه ، واحد منها ظاهر السقوط :
الأول : هو ما ذكره بعض علماء العربية من أن المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال ، فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه : ويصدون عن سبيل الله [ 22 \ 25 ] ، وقوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله [ 13 \ 28 ] قاله أبو حيان وغيره .
الثاني : أن يصدون خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : إن الذين كفروا ، وهم يصدون ، وعليه فالجملة المعطوفة اسمية لا فعلية ، وهذا القول استحسنه القرطبي .
الثالث : أن يصدون مضارع أريد به الماضي ؛ أي : كفروا وصدوا . وليس بظاهر .
الرابع : أن الواو زائدة ، وجملة " يصدون " خبر " إن " أي : إن الذين كفروا يصدون [ ص: 293 ] الآية . وهذا هو الذي قدمنا أنه ظاهر السقوط ، وهو كما ترى ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن من أعمال الكفار الصد عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله الآية [ 2 \ 217 ] ، وقوله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله [ 48 \ 25 ] ، وقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا الآية [ 5 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : سواء العاكف فيه والبادي [ 22 \ 25 ] قرأه عامة السبعة غير حفص عن عاصم : سواء ، بضم الهمزة ، وفي إعرابه على قراءة الجمهور هذه برفع " سواء " وجهان :
الأول : أن قوله : العاكف : مبتدأ ، والباد : معطوف عليه ، و : " سواء " خبر مقدم ، وهو مصدر أطلق وأريد به الوصف .
فالمعنى : العاكف والبادي سواء ؛ أي : مستويان فيه ، وهذا الإعراب أظهر الوجهين .
الثاني : أن " سواء " مبتدأ و " العاكف " فاعل سد مسد الخبر ، والظاهر أن مسوغ الابتداء بالنكرة التي هي " سواء " على هذا الوجه : هو عملها في المجرور الذي هو فيه ؛ إذ المعنى : سواء فيه العاكف والبادي ، وجملة المبتدأ وخبره في محل المفعول الثاني لـ " جعلنا " وقرأ حفص عن عاصم : " سواء " بالنصب ، وهو المفعول الثاني لـ " جعلنا " التي بمعنى صيرنا . والعاكف فاعل " سواء " أي : مستويا فيه العاكف والبادي ، ومن كلام العرب : مررت برجل سواء هو والعدم ، ومن قال : إن " جعل " في الآية تتعدى إلى مفعول واحد قال : إن " سواء " حال من الهاء في : جعلناه ؛ أي : وضعناه للناس في حال كونه سواء العاكف فيه والبادي كقوله : إن أول بيت وضع للناس الآية [ 3 \ 96 ] وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الكريمة يشمل جميع الحرم ; ولذلك أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن رباع مكة لا تملك ، وقد قدمنا الكلام مستوفى في هذه المسألة وأقوال أهل العلم فيها ، ومناقشة أدلتهم في سورة الأنفال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، والعاكف : هو المقيم في الحرم ، والبادي : الطارئ عليه من البادية ، وكذلك غيرها من أقطار الدنيا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " والبادي " قرأه أبو عمرو عن وورش نافع بإثبات الياء بعد الدال في الوصل ، وإسقاطها في الوقف ، وقرأه ابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا ، [ ص: 294 ] وقرأه باقي السبعة بإسقاطها ، وصلا ووقفا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] قد أوضحنا إزالة الإشكال عن دخول الباء على المفعول في قوله : بإلحاد ، ونظائره في القرآن ، وأكثرنا على ذلك من الشواهد العربية في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
والإلحاد في اللغة أصله : الميل ، والمراد بالإلحاد في الآية : أن يميل ويحيد عن دين الله الذي شرعه ، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا الكفر بالله ، والشرك به في الحرم ، وفعل شيء مما حرمه ، وترك شيء مما أوجبه . ومن أعظم ذلك : انتهاك حرمات الحرم . وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة ، وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك قول الرجل : لا والله ، و : بلى والله . وعن رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان : أحدهما في طرف الحرم ، والآخر في طرف الحل ، فإذا أراد أن يعاتب أهله أو غلامه فعل ذلك في الفسطاط الذي ليس في الحرم ، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم . ابن عمر
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر في هذه المسألة أن كل مخالفة بترك واجب ، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور ، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته ، أو عبده ، فليس من الإلحاد ، ولا من الظلم .