تنبيه 
قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر  ، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي ؟ 
اختلف أهل العلم في ذلك ، وسنبين هنا إن شاء الله أقوالهم وحججهم ، وما   [ ص: 330 ] يرجحه الدليل عندنا من ذلك ، فممن قال : إن وجوبه على التراخي ;  الشافعي  وأصحابه . قال النووي    : وبه قال  الأوزاعي  ،  والثوري  ، ومحمد بن الحسن  ، ونقله الماوردي  عن  ابن عباس  ، وأنس  ، وجابر  ، وعطاء  ،  وطاوس  ، وممن قال إنه على الفور  الإمام أحمد  ، وأبو يوسف  ، وجمهور أصحاب أبي حنيفة  والمزني    . قال النووي    : ولا نص في ذلك لأبي حنيفة  ، وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي : إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف  ، وعن أبي حنيفة  ما يدل عليه فإن ابن شجاع  روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج  ، قال : يحج ولا يتزوج ; لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده ، وهذا يدل على أنه على الفور . انتهى . 
وأما مذهب مالك  فعنه في المسألة قولان مشهوران ، كلاهما شهره بعض علماء المالكية . 
أحدهما : أنه على الفور ، والثاني : أنه على التراخي ، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات ، فإن خشيه وجب عندهم فورا اتفاقا . 
قال خليل بن إسحاق  في مختصره في الفقه المالكي : وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف . اهـ . 
وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره : خلاف ، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول . 
وقال الشيخ المواق  في كلامه على قول خليل  المذكور ما نصه الجلاب    : من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره إلا من عذر ، وفرضه على الفور دون التراخي والتسويف ، وعن  ابن عرفة  هذا للعراقيين  ، وعزا لابن محرز  والمغاربة  وابن العربي  ، وابن رشد    : أنه على التراخي ما لم يخف فواته . وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم : 
أما الذين قالوا : إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة ، منها : أنهم قالوا : إن الحج فرض عام ست من الهجرة  ، ولا خلاف أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله  الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية  من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهم محرمون بعمرة ، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف ، ويدل عليه ما تقدم في حديث  كعب بن عجرة  الذي نزل فيه : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك   [ ص: 331 ]   [ 2 \ 196 ] ، وذلك متصل بقوله : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا  الآية [ 2 \ 196 ] ، ولذا جزم  الشافعي  وغيره بأن الحج فرض عام ست . قالوا : وإذا كان الحج فرض عام ست ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر ، فذلك دليل على أنه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج بعد نزول الآية . قالوا : ولا سيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة  في رمضان ، واعتمر عمرة الجعرانة  في ذي القعدة من عام ثمان ، ثم رجع إلى المدينة  ، ولم يحج ، قالوا : واستخلف عتاب بن أسيد  ، فأقام للناس الحج سنة ثمان ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة  هو وأزواجه وعامة أصحابه ، ولم يحجوا ، قالوا : ثم غزا غزوة تبوك  في عام تسع ، وانصرف عنها قبل الحج ، فبعث أبا بكر  رضي الله تعالى عنه ، فأقام للناس الحج سنة تسع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج ، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ، ولم يحجوا ، ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع ، قالوا : فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور ، بل على التراخي . 
واستدلوا لذلك أيضا بما جاء في صحيح مسلم  في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي  رضي الله عنه : حدثني  عمرو بن محمد بن بكير الناقد  ، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر  ، حدثنا  سليمان بن المغيرة  ، عن ثابت  ، عن  أنس بن مالك  قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاءه رجل من أهل البادية فقال : يا محمد  صلى الله عليه وسلم ، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك . قال : صدق . قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال : فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا ، قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قال : صدق . ثم ولى قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لئن   [ ص: 332 ] صدق ليدخلن الجنة "   . انتهى من صحيح مسلم  ، قالوا : هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج ، وقد زعم  الواقدي  وغيره : أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة  كان عام خمس ، قالوا : وقد رواه  شريك بن أبي نمر  عن كريب  فقال فيه : بعث بنو سعد  ضماما  في رجب سنة خمس ، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضا عام خمس ، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي ، لا على الفور . 
ومن أدلتهم على أنه على التراخي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة   " فدل ذلك على جواز تأخير الحج  ، وهو دليل على أنه على التراخي . 
ومن أدلتهم أيضا : أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى ، أو إلى سنين ، ثم فعله ; فإنه يسمى مؤديا للحج لا قاضيا له بالإجماع ، قالوا : ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء . 
ومن أدلتهم على أنه على التراخي : ما هو مقرر في أصول الشافعية ، وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن ، لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد . فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر . 
ومن أدلتهم : أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة . قالوا : فهي على التراخي ، ويقاس الحج عليها ، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين . 
ومنها : أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي ، بجامع أن كليهما واجب ، ليس له وقت معين : قالوا : ولكن ثبتت آثار : أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة . هذا هو حاصل أدلة القائلين بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور . وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضا بأدلة ، ومنعوا أدلة المخالفين . 
فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور  آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك ، وهي على قسمين : 
قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا ، والثناء على من فعل ذلك . 
والقسم الثاني : يدل على توبيخ من لم يبادر ، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل ; لأنه قد يكون اقترب أجله ، وهو لا يدري . 
أما آيات القسم الأول فكقوله :   [ ص: 333 ] وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين    [ 3 \ 133 ] وقوله تعالى : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض  الآية [ 57 \ 21 ] ، فقوله : وسارعوا  وقوله : سابقوا إلى مغفرة  فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته ، وجنته جل وعلا ، وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره ، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي ، وكقوله : فاستبقوا الخيرات  الآية [ 2 \ 148 ] ، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال . وصيغ الأمر في قوله : وسارعوا  وقوله : سابقوا  ، وقوله : فاستبقوا  تدل على الوجوب ; لأن الصحيح المقرر في الأصول : أن صيغة افعل ، إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب ، وإليه أشار في المراقي بقوله : 
وافعل لدى الأكثر للوجوب . . إلخ 
وذلك لأن الله تعالى يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم    [ 24 \ 63 ] وقال جل وعلا : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم    [ 33 \ 36 ] فصرح جل وعلا ، بأن أمره قاطع للاختيار ، موجب للامتثال ، وقد سمى نبيه موسى  عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية ، وذلك في قوله : أفعصيت أمري    [ 20 \ 93 ] يعني قوله له : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين    [ 7 \ 142 ] وإنما قال موسى  لأخيه هارون  قبل أن يعلم حقيقة الحال ، فلما علمها قال : رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين    [ 7 \ 151 ] ومما يدل على اقتضاء الأمر الوجوب : أن الله جل وعلا عنف إبليس لما خالف الأمر بالسجود ، وذلك في قوله : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك    [ 7 \ 12 ] والنصوص بمثل هذا كثيرة ، وقد أجمع أهل اللسان العربي : أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، مثلا ، فلم يمتثل أمره فأدبه على ذلك ، أن ذلك التأديب واقع موقعه ; لأنه عصاه بمخالفة أمره ، فلو قال العبد : ليس لك أن تؤدبني ، لأن أمرك لي بقولك : اسقني ماء ، لا يقتضي الوجوب - لقال له أهل اللسان : كذبت ، بل الصيغة ألزمتك ، ولكنك عصيت سيدك ، فدل ما ذكر على أن الشرع واللغة دلا على اقتضاء الأمر المجرد الوجوب ، وذلك يدل على أن قوله : سابقوا  وقوله : وسارعوا  يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورا . 
ومن الآيات التي فيها الثناء على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى :   [ ص: 334 ] إنهم كانوا يسارعون في الخيرات  الآية [ 21 ] . وقوله تعالى : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون    [ 23 \ 61 ] . 
وأما القسم الدال على التخويف من الموت قبل الامتثال المتضمن الحث على الامتثال : فهو أن الله جل وعلا أمر خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه ، كخلقه للسماوات والأرض ، ونحو ذلك من الآيات من كتابه كقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض  الآية [ 10 \ 101 ] ، وقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج    [ 50 \ 6 ] ، وقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت    [ 88 \ 17 - 20 ] . ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل ، فقد يقترب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعالجة الموت ، وذلك في قوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم    [ 7 \ 185 ] إذ المعنى : أولم ينظروا في أنه عسى أن يكون أجلهم قد اقترب ، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت ، وفي الآية دليل واضح ، على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر ؛ خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك . 
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور ، أحاديث جاءت دالة على ذلك ، ولا يخلو شيء منها من مقال ، إلا أنها تعتضد بالآيات المذكورة ، وبما سنذكره إن شاء الله بعدها . 
منها ما أخرجه أحمد    : حدثنا عبد الرزاق  ، أنبأنا  الثوري  ، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي  ، عن فضيل ، يعني ابن عمرو  ، عن  سعيد بن جبير  ، عن  ابن عباس  رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعجلوا إلى الحج   " يعني الفريضة . فقوله في هذا الحديث : تعجلوا ، يدل على الفور ، وقد نقل حديث أحمد  هذا المجد في المنتقى بحذف الإسناد على عادته ، فقال : عن  ابن عباس  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعجلوا إلى الحج   " - يعني الفريضة - " فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له   " . رواه أحمد    . انتهى منه . 
وقد سكت على هذا الحديث ، وسكت عليه أيضا شارحه الشوكاني  في نيل الأوطار ، وظاهر سكوتهما عليه : أنه صالح للاحتجاج عندهما ، والظاهر عدم صلاحية هذا الحديث بانفراده   [ ص: 335 ] للاحتجاج ; ففي سنده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي  ، وهو لا يحتج بحديثه ; لأنه ضعفه أكثر أهل العلم بالحديث ، وكان شيعيا من غلاتهم ، وكان ممن يكفر أمير المؤمنين  عثمان بن عفان  رضي الله عنه ، وقال فيه ابن حجر  في التقريب : صدوق ، سيئ الحفظ ، نسب إلى الغلو في التشيع . 
والحاصل : أن أكثر أهل العلم لا يحتجون بحديثه ، وانظر إن شئت أقوال أهل العلم في تهذيب التهذيب ، والميزان وغيرهما . 
ومن أدلتهم أيضا على ذلك : ما رواه الإمام أحمد    : حدثنا أبو معاوية  ، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي  ، عن مهران أبي صفوان  ، عن  ابن عباس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل   " . اهـ . ورواه أبو داود    : حدثنا مسدد  ، ثنا [ أبو ] معاوية محمد بن خازم  ، عن  الأعمش  ، عن الحسن بن عمرو  ، عن مهران أبي صفوان  ، عن  ابن عباس  قال : " من أراد الحج فليتعجل   " . اهـ . وقال الحاكم  في المستدرك : حدثنا أبو بكر بن إسحاق  ، أنبأنا أبو المثنى  ، ثنا  أبو معاوية محمد بن خازم  ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي  ، عن أبي صفوان  ، عن  ابن عباس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل   " ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وأبو صفوان  هذا سماه غيره مهران  ، مولى لقريش  ، ولا يعرف بالجرح . انتهى منه . وأقره  الحافظ الذهبي  على تصحيحه لهذا الإسناد ، ولا يخلو هذا السند من مقال ; لأن فيه مهران أبا صفوان  ، قال فيه ابن حجر  في التقريب : كوفي مجهول ، وقال صاحب الميزان : لا يدرى من هو . وقال فيه في تهذيب التهذيب : روى عن  ابن عباس    : " من أراد الحج فليتعجل   " ، وعنه الحسن بن عمرو الفقيمي  ، قال أبو زرعة    : لا أعرفه إلا في هذا الحديث ، وذكره  ابن حبان  في الثقات . قلت : وقال الحاكم  لما أخرج حديثه هذا في المستدرك : لا يعرف بجرح . انتهى منه ، وهو دليل على أن حديث مهران  المذكور معتبر به ، فيعتضد بما قبله ، وبما بعده ، مع أن  ابن حبان  عده في الثقات ، وصحح حديثه الحاكم  ، وأقره الذهبي  على ذلك . اهـ . 
وقال  ابن ماجه  في سننه : حدثنا علي بن محمد  ، وعمرو بن عبد الله  ، قالا : ثنا  وكيع  ، ثنا إسماعيل أبو إسرائيل  ، عن فضيل بن عمرو  ، عن  سعيد بن جبير  ، عن  ابن عباس  ، عن الفضل    - أو أحدهما عن الآخر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل ; فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الضالة ، وتعرض الحاجة   " . اهـ . وفي سنده : إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي  ، وقد قدمنا قريبا أن الأكثرين ضعفوه . 
 [ ص: 336 ] ومن أدلتهم على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من لم يحبسه مرض ، أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا   " قال ابن حجر  في التلخيص : هذا الحديث ذكره  ابن الجوزي  في الموضوعات . وقال  العقيلي   والدارقطني    : لا يصح فيه شيء . 
قلت : وله طرق . 
أحدها : أخرجه  سعيد بن منصور  في السنن وأحمد  وأبو يعلى  والبيهقي  من طرق عن شريك  عن  ليث بن أبي سليم  ، عن ابن سابط  ، عن أبي أمامة  بلفظ : " من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا   " . لفظ البيهقي  ، ولفظ أحمد    : " من كان ذا يسار فمات ولم يحج   " الحديث . وليث  ضعيف ، وشريك  سيئ الحفظ ، وقد خالفه سفيان   الثوري  فأرسله ، ورواه أحمد  في كتاب الإيمان له عن  وكيع  ، عن سفيان  ، عن ليث  ، عن ابن سابط  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة   " فذكره مرسلا . 
وكذا ذكره  ابن أبي شيبة  ، عن أبي الأحوص  ، عن ليث  مرسلا ، وأورده أبو يعلى  من طريق أخرى ، عن شريك  مخالفة للإسناد الأول ، وراويها عن شريك عمار بن مطر  ضعيف . وقال الذهبي  في الميزان ، بعد أن ذكر طريق أبي يعلى  هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي  المذكور الراوي ، عن شريك    : هذا منكر عن شريك    . 
الثاني : عن  علي بن أبي طالب  رضي الله عنه مرفوعا : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ; وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] " رواه الترمذي  ، وقال : غريب ، وفي إسناده مقال ، والحارث  يضعف ، وهلال بن عبد الله  الراوي له عن أبي إسحاق  مجهول ، وسئل  إبراهيم الحربي  عنه ؟ فقال : من هلال    . وقال  ابن عدي    : يعرف بهذا الحديث ، وليس الحديث بمحفوظ . وقال  العقيلي    : لا يتابع عليه ، وذكر في الميزان حديث علي  هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور  ، وقال : قال  البخاري    : منكر الحديث . وقال الترمذي    : مجهول ، وقال  العقيلي    : لا يتابع على حديثه . اهـ . وقال فيه في التقريب : متروك . وقد روي عن علي  موقوفا ، ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا ، وقال المنذري    : طريق أبي أمامة  على ما فيها أصلح من هذه . 
الثالث : عن  أبي هريرة  رفعه : " من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس ،   [ ص: 337 ] أو حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ; فليمت أي الميتتين شاء : إما يهوديا أو نصرانيا   " رواه  ابن عدي  ، من طريق عبد الرحمن الغطفاني  ، عن أبي المهزم    - وهما متروكان - عن  أبي هريرة  ، وله طريق صحيحة ; إلا أنها موقوفة ، رواها  سعيد بن منصور  والبيهقي  ، عن  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه قال : " لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فتنظر كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية ; ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين   " لفظ سعيد  ، ولفظ البيهقي  أن عمر  قال : ليمت يهوديا أو نصرانيا - يقولها ثلاث مرات - رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة ، وخليت سبيله   . 
قلت : وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط  ، علم أن لهذا الحديث أصلا ، ومحمله على من استحل الترك ، وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع والله أعلم . اهـ من التلخيص الحبير بلفظه . 
وقول ابن حجر    : ومحمله على من استحل الترك ، هو قول من قال من المفسرين : إن الكفر في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين    [ 3 \ 97 ] يحمل على مستحل الترك ، ولا دليل عليه ، ووجه الدلالة من الأحاديث المذكورة على ما فيها من المقال أنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج ؛ كالمرض ، أو الحاجة الظاهرة ، أو السلطان الجائر . فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات ، وهو آثم بالتأخير . فدل على أن وجوب الحج على الفور ، وأنه لا يجوز التراخي فيه إلا لعذر ، وقال الشوكاني  في نيل الأوطار ، بعد أن ساق الطرق التي ذكرناها عن صاحب التلخيص : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا . وبذلك تتبين مجازفة  ابن الجوزي  في عده لهذا الحديث من الموضوعات ، فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ولا يقدح في ذلك قول  العقيلي   والدارقطني    : لا يصح في الباب شيء ; لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن . اهـ . محل الغرض منه . 
ومن أدلتهم أيضا على أن وجوب الحج على الفور ، ما قدمناه في سورة البقرة ، من حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري  رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل   " قال عكرمة    : سألت  ابن عباس   وأبا هريرة  عن ذلك - يعني حديث الحجاج بن عمرو  المذكور فقالا : صدق . وقد قدمنا أن هذا الحديث ثابت من رواية الحجاج بن عمرو الأنصاري   وابن عباس   وأبي هريرة  ، وقد قدمنا أنه رواه  الإمام أحمد  ، وأصحاب السنن ،  وابن خزيمة  والحاكم  ، والبيهقي  ، وقد   [ ص: 338 ] قدمنا أنه سكت عليه أبو داود  والمنذري  ، وحسنه الترمذي  ، وأن النووي  قال فيه : رواه أبو داود  ،  والترمذي  ،  والنسائي  ،  وابن ماجه  والبيهقي  ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ومحل الشاهد من الحديث المذكور قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث ، عند أبي داود  ،  وابن ماجه    : " فقد حل ، وعليه الحج من قابل   " ; لأن قوله : " من قابل   " دليل على أن الوجوب على الفور ، وقد قدمنا هناك ما يدل على أن ذلك القضاء الواجب على المحصر بمرض أو نحوه إنما هو في حجة الإسلام ، وأنه لا قضاء على المحصر في غيرها ، وبينا أدلة ذلك هناك في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي    [ 2 \ 196 ] والرواية التي ذكرنا هناك : " فقد حل ، وعليه حجة أخرى " ، وهذه الرواية قد بينتها رواية : " وعليه الحج من قابل   " وهي ثابتة ، وهي دالة على الفور ، مفسرة للرواية التي ذكرنا هناك . 
فهذه الأحاديث - مع تعددها واختلاف طرقها - تدل على أن وجوب الحج على الفور ، وتعتضد بالآيات القرآنية التي قدمناها ، وتعتضد بما سنذكره - إن شاء الله - من كلام أهل الأصول . 
واعلم أن المخالفين قالوا : إن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء ، وأن حديث : " من أراد أن يحج فليتعجل   " - مع ضعفه - حجة لهم لا عليهم ; لأنه وكل الأمر إلى إرادته ، فدل على أنه ليس على الفور ، ولا يخفى أن الأحاديث التي ذكرنا لا يقل مجموعها عن درجة الاحتجاج ، على أن وجوب الحج على الفور . 
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور ، هو أن الله أمر به ، وأن جماعة من أهل الأصول قالوا : إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور . أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورا لامتثال أوامر الله كقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم    [ 3 \ 133 ] ، وكقوله : سابقوا إلى مغفرة من ربكم  الآية [ 57 \ 21 ] ، وبينا دلالة تلك الآيات وأمثالها على اقتضاء الأمر الفور ، وأوضحنا ذلك . 
وأما اللغة : فإن أهل اللسان العربي ، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، فلم يفعل ، فأدبه ، فليس للعبد أن يقول له : صيغة افعل في قولك : اسقني ماء ، تدل على التراخي ، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر ، بل يقولون : إن الصيغة ألزمتك فورا ، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي . 
 [ ص: 339 ] وأما العقل : فإنا لو قلنا : إن وجوب الحج على التراخي ، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها ، وإما لا ، والقسم الأول ممنوع ; لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة ، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه إن قلنا : إنه ليس على الفور . 
والحاصل : أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع . 
والقسم الثاني الذي هو : أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه ; لأن ما جاز تركه جوازا لم تعين له غاية ينتهي إليها ، فإن تركه جائز إلى غير غاية ، وهذا يقتضي عدم وجوبه ، والمفروض وجوبه . 
فإن قيل : غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه . 
فالجواب : أن البقاء إلى زمن متأخر ، ليس لأحد أن يظنه ؛ لأن الموت يأتي بغتة ، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة ، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك : وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم    [ 7 \ 185 ] ولا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات ، ولا سيما العبادات الشاقة كالحج . والإنسان طويل الأمل ، يهرم ، ويشب أمله ، وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه . 
فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور ، ومنعوا أدلة المخالفين ، قالوا إن قولكم : إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة  المتقدمة ، فإن قدومه سنة خمس ، وقد ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج ، وأن قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله  الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست في عمرة الحديبية  ، فدلت على أن الحج مفروض عام ست ، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر ، كل ذلك مردود ، بل الحج إنما فرض عام تسع ، قالوا : والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي  كان سنة تسع . 
وقال ابن حجر  في الإصابة في ترجمة ضمام  المذكور ما نصه : وزعم  الواقدي  أن قدومه كان في سنة خمس ، وفيه نظر . وذكر ابن هشام  عن أبي عبيد  أن قدومه كان سنة تسع ، وهذا عندي أرجح . اهـ منه ، وانظر ترجيح ابن حجر  لكون قدومه عام تسع . 
وذكر ابن كثير  قدوم ضمام  المذكور في حوادث سنة تسع ، مع أنه ذكر قول من قال : إن قدومه كان قبل عام خمس ، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام  ، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية : وأتموا الحج والعمرة لله    [ 2 \ 196 ] فهو أنها لم يذكر فيها إلا   [ ص: 340 ] وجوب الإتمام بعد الشروع ، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب ، وقد أجمع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة ، وجب عليه الإتمام ، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب . 
قال ابن القيم  في زاد المعاد ما نصه : وأما قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله    [ 2 \ 196 ] فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية  فليس فيها فرضية الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . 
فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ 
قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه : قدم وفد نجران   على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك  سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ، ويدل عليه أن أهل مكة  ، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين ، لما أنزل الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا    [ 9 \ 28 ] فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية ، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان عام تسع ، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة  في موسم الحج ، وأردفه بعلي  رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف ، والله أعلم . انتهى من زاد المعاد . 
فتحصل أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله    [ 2 \ 196 ] ، لم تدل على وجوب الحج ابتداء ، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة ، والخلاف في وجوبها معروف ، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه . 
بل الذي أجمعوا عليه : هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها ، كما هو ظاهر الآية ، وأن قصة ضمام بن ثعلبة  ، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر  وغيره ، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة ، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم  في كلامه المذكور آنفا ; لأن آية : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] هي الآية التي فرض بها الحج . 
وهي من صدر سورة آل عمران ، وقد نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران   ، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام   [ ص: 341 ] تبوك  سنة تسع كما تقدم قريبا ، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى . 
وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة    ; لأنه انصرف من مكة  والحج قريب ، ولم يحج لأنه لم يفرض . 
فإن قيل : سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة  مع تمكنه منه وقدرته عليه ، أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت ، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع ، بل أخر حجه إلى عام عشر ، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر . 
فالجواب والله تعالى أعلم : أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي ، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة ، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام  ، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا    [ 9 \ 28 ] ، و ( عامهم هذا ) هو عام تسع ، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع ، ولذا أرسل عليا  رضي الله عنه بعد أبي بكر  ينادي بـ " براءة " وأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا عريان ، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك ، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم ، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه : عام عشر ، وقد بادر بالحج فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وأجابوا عن قولهم : كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي ، أن يفسخوا حجهم في عمرة ، دليل على تأخير الحج ; لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة ، وحلوا منه - بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها ، وتأخير الحج إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى ، وذلك ليس بواقع هنا ، فلا تأخير للحج في الحقيقة ; لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة ، فلا تأخير كما ترى ، وأجابوا عن قولهم : إنه لو أخره من سنة إلى أخرى ، أو سنين ، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع ، ولو حرم التأخير لكان قضاء - بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول ، والحج لم يوقت بزمن معين ، والعمر كله وقت له ، وذلك لا ينافي وجوب المبادرة خوفا من طرو العوائق ، أو نزول الموت قبل   [ ص: 342 ] الأداء ، كما تقدم إيضاحه . 
وأجابوا عن قولهم : إن من تمكن من أداء الحج ثم أخره ثم فعله  ، لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره . ولو كان التأخير حراما لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز - بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته ، بل لا ترد إلا بما يؤدي إلى الفسق ، وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف وقول من قال : إنه لم يرتكب حراما ، وشبهة الأدلة التي أقاموها على ذلك ، هذا هو حاصل أدلة الفريقين . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو أن وجوب أوامره جل وعلا - كالحج - على الفور لا على التراخي ، لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة ، وللخوف من مباغتة الموت كقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم  الآية [ 3 \ 133 ] وما قدمنا معها من الآيات ، وكقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم    [ 7 \ 185 ] ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور ، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر ، والعلم عند الله تعالى ، وأشار في مراقي السعود إلى أن مذهب مالك  أن وجوب الأمر على الفور بقوله : 
وكونه للفور أصل المذهب وهو لدى القيد بتأخير أبي 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					