إجابة أكثر من مؤذن 
 وللعلماء مبحث فيما لو سمع أكثر من مؤذن ، قال النووي    : لم أر فيه شيئا لأصحابنا ، وفيه خلاف للسلف ، وقال حكاه  القاضي عياض  في شرح مسلم  ، والمسألة محتملة ، ثم قال : والمختار أن يقال : المتابعة سنة متأكدة يكره تركها لتصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر ، وهذا يختص بالأول ; لأن الأمر لا يقتضي التكرار . 
وذكره صاحب الفتح وقال : وقال ابن عبد السلام    : يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب . اهـ . 
وعند الأحناف الحق للأول . 
وأصل هذه المسألة في مبحث الأصول ، هل الأمر المطلق يقتضي تكرار المأمور به أم لا  ؟ 
وقد بحث هذا الموضوع فضيلة شيخنا - رحمة الله تعالى عليه - في مذكرة الأصول وحاصله : إن الأمر إما مقيد بما يقتضي التكرار أو مطلق عنه ، ثم قال : والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة ، ثم فصل - رحمة الله تعالى عليه - القول فيما اتفق عليه وما اختلف فيه ، ومنه تعدد حكاية المؤذن وبحثها بأوسع في الأضواء عن تعدد الفدية في الحج ، والواقع أن سبب الخلاف فيما اختلف فيه إنما هو من باب تحقيق المناط هل السبب المذكور مما يقتضي التعدد ، أم لا ؟ 
والأسباب في هذا الباب ثلاثة أقسام قسم يقتضي التكرار قطعا ، وقسم لا يقتضيه قطعا ، وقسم هو محل الخلاف . 
فمن الأسباب المقتضية التكرار قطعا : ما لو ولد له توأمان فإن عليه عقيقتين ،   [ ص: 153 ] ومنها : لو ضرب حاملا فأجهضت جنينين لوجبت عليه غرتان . 
ومن الأسباب التي لا تقتضي التكرار ما لو أحدث عدة أحداث من نواقض الوضوء فأراد أن يتوضأ فإنه لا يكرر الوضوء بعدد الأحداث ، ويكفي وضوء واحد ، وكذلك موجبات الغسل لو تعددت قبل أن يغتسل فإنه يكفيه غسل واحد عن الجميع . 
ومما اختلف فيه ما كان دائرا بين هذا وذاك ، كما لو ظاهر من عدة زوجات هل عليه كفارة واحدة نظرا لما أوقع من ظهارأم عليه عدة كفارات نظرا لعدد ظاهر منهن ؟ وكذلك إذا ولغ عدة كلاب في إناء هل يعفر الإناء مرة واحدة ، أم يتعدد التعفير لتعدد الولوغ من عدة كلاب ؟ 
ومن ذلك ما قالوه في إجابة المؤذن إذا تعدد المؤذنون تعددت الأسباب ، فهل تتعدد الإجابة أم يكتفي بإجابة واحدة ؟ تقدم قول النووي  أنه لم يجد شيئا لأصحابه ، وكلام العز بن عبد السلام  بتعدد الإجابة وبالنظر الأصولي ، نجد تعدد المؤذنين ليس كتعدد نواقض الوضوء ; لأن المتوضئ إذا أحدث ارتفع وضوءه وليس عليه أن يتوضأ لهذا الحدث ، فإذا أحدث مرة أخرى لم يقع هذا الحدث الثاني على طهر ولم يجد حدثا آخر . 
وهكذا مهما تعددت الأحداث ، فإذا أراد الصلاة كان عليه أن يرفع حدثه فيكفي فيه وضوء واحد ، ولكن مستمع المؤذن حينما سمع المؤذن الأول فهو مطالب بمحاكاته ، فإن فرغ منه وسمع مؤذنا آخر ، فإن من حق هذا المؤذن الآخر أن يحاكيه ، ولا علاقة لأذان هذا بذاك ، فهو من باب تجدد السبب وتعدده أو هو إليه أقرب ، كما لو سمع أذان الظهر فأجابه ثم سمع أذان العصر فلا يكفي عنه إجابة أذان الظهر ، فإن قيل : قد اختلف الوقت وجاء أذان جديد ، فيقال : قد اختلف المؤذن فجاء أذان جديد . 
وأقرب ما يكون لهذه المسألة مسألة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره في حديث قوله صلى الله عليه وسلم : " آمين آمين " ثلاث مرات وهو يصعد المنبر ، ولما سئل عن ذلك قال : " أتاني جبريل  فقال : يا محمد  من ذكرت عنده ، ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل : آمين ، فقلت : آمين   " ، وذكر بقية المسائل فإن بهذا يتعين تكرار الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند كل ما يسمع ذكره صلوات الله وسلامه عليه ، وهنا عليه تكرار محاكاة المؤذن ، كما رجحه ابن عبد السلام  ، والله تعالى أعلم . 
 [ ص: 154 ] تنبيه 
وإذا سمع المؤذن وهو في صلاة  فلا يقول مثل ما يقول المؤذن ، وإذا كان في قراءة ، أو دعاء ، أو ذكر خارج الصلاة ، فإنه يقطعه ويقول مثل قول المؤذن . 
قاله ابن تيمية  في الفتاوى وابن قدامة  في المغني ، والنووي  في المجموع . 
تنبيه 
ولا يجوز النداء للصلاة جمعة أو غيرها من الصلوات الخمس إلا بهذه الألفاظ المتقدم ذكرها ، وما عداها مما أدخله الناس لا أصل له ، كالتسبيح قبل الفجر ، والتسبيح والتحميد والتكبير يوم الجمعة بما يسمى بالتطليع ونحوه ، فكل هذا لا نص عليه ولا أصل له . 
وقد نص في فتح الباري ردا على ابن المنير  ، حيث جعل بعض الهيئات أو الأقوال من مكملات الإعلام ، فقال ابن حجر    : وأغرب ابن المنير  ولو كان ما قاله على إطلاقه لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ، ومن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأذان ، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا . 
وفي الحاشية للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز  تعليق على كلام ابن المنير  بقوله هذا فيه نظر . والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده  ، كما أشار إليه الشارع بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه ، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات ، فتنبه . 
وقال في الفتح أيضا ما نصه : وما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في بعض البلاد دون بعض ، واتباع السلف الصالح أولى ، وقال ابن الحاج  في المدخل مجلد 2 ص 452 ، وينهى المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل ، وإن كان ذكر الله تعالى حسنا وعلنا لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله وسلامه عليه ، ولم يعين فيها شيئا معلوما . 
وقال بعده بقليل : وكذلك ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند طلوع الفجر ، وإن كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر العبادات   [ ص: 155 ] وأجلها ، فينبغي أن يسلك بها مسلكها ، فلا توضع إلا في مواضعها التي جعلت لها . 
وقال صاحب الإبداع في مضار الابتداع ، ما نصه : ومن البدع ما يسمى بالأولى والثانية ، أعني ما يقع قبل الزوال يوم الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك ، ولا خلاف في أن ذلك لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد السلف الصالح ، وإنما النظر في ذمه واستحسانه . ا هـ . 
وهذا النظر مفروغ منه في التنبيهات المتقدمة لابن حجر  ، وابن الحاج  ، وابن باز    . 
والقاعدة الأصولية الفقهية : أن العبادات مبناها على التوقيف ، وما لم يكن دينا ولا عبادة عند السلف الصالح فلا حاجة إليه اليوم ، كما قال مالك  رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . 
وقد ذكر صاحب الإبداع أيضا تاريخ إحداث رفع الصوت بالصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان ، فقال : كان ابتداء ذلك في أيام السلطان  الناصر صلاح الدين بن أيوب  وبأمره في مصر  وأعمالها ، لسبب مذكور في كتب التاريخ . ا هـ . 
والسبب يتعلق ببدعة الفاطميين بسبب بعض الأشخاص على المنابر والمنائر ، فغير  عمر بن عبد العزيز    - رحمه الله - ما كان على المنابر بقوله : إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر . 
وكذلك غير صلاح الدين  ما كان بعد الأذان بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم . 
تنبيه 
من أسباب تمسك بعض البلاد بهذين العملين هو ألا يؤذن قبل الجمعة ، فاعتاضوا عن الأذان بما يسمى التطليع أو بالأولى والثانية أي : التطليعة الأولى والتطليعة الثانية ، وكذلك لا يؤذنون للفجر قبل الوقت فاستعاضوا عنه بالتسبيح والتكبير وغيره . 
أما الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب كل أذان ، فقد قاسوا المؤذن على السامع في حديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ; فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا   " . 
فقالوا : والمؤذن أيضا يصلي ويسلم ، ثم زادوا في القياس خطة وجعلوا صلاة   [ ص: 156 ] المؤذن وتسليمه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت مرتفع كالأذان ، وبهذا تعلم أنه ما أميتت سنة إلا ونشأت بدعة ، وأن قياس المؤذن على السامع ليس سليما . 
وتقدم لك أن محاكاة المؤذن لربط السامع بالأذان ; ليتجاوب معه في معانيه ، ولو قيل : إن للمؤذن أن يصلي ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سرا بعد الفراغ من الأذان ، وأن يسأل الله الوسيلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشارك في الأجرين : أجر الأذان ، وأجر سؤال الوسيلة لكان له أجر ، والعلم عند الله تعالى . 
				
						
						
