قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس  الجواري الكنس   والليل إذا عسعس  والصبح إذا تنفس  إنه لقول رسول كريم  
ظاهر قوله تعالى : فلا أقسم  نفي القسم ، ولكنه قسم قطعا ، بدليل التصريح بجواب القسم في قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم    [ 81 \ 19 ] . 
وبهذا يترجح ما تقدم في أول سورة " القيامة " : لا أقسم بيوم القيامة    [ 75 \ 1 ] . 
ومثل الآتي لا أقسم بهذا البلد    [ 90 \ 1 ] . 
تنبيه . 
يجمع المفسرون أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ; لأنها دالة على قدرته ، وليس للمخلوق أن يحلف إلا بالله تعالى . 
ولكن ; هل في المغايرة بما يقسم الله تعالى به معنى مقصود ، أم لمجرد الذكر  ، وتعدد المقسم به ؟ 
 [ ص: 443 ] وبعد التأمل ، ظهر - والله تعالى أعلم - أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره ، إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع ، يكون بين المقسم به والمقسم عليه مناسبة وارتباط ، وقد يظهر ذلك جليا ، وقد يكون خفيا . 
وهذا فعلا ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن ، وإن كنت لم أقف على بحث فيه . 
ولكن مما يشير إلى هذا الموضوع ، ما جاء بالإقسام بمكة  مرتين ، وفي حالتين متغايرتين . 
الأولى : قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد  وأنت حل بهذا البلد  ووالد وما ولد  لقد خلقنا الإنسان في كبد    [ 90 \ 1 - 4 ] . 
والموضع الثاني : قوله تعالى : والتين والزيتون  وطور سينين  وهذا البلد الأمين  لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم    [ 95 \ 1 - 4 ] . 
فالمقسم به في الموضعين : مكة المكرمة  ، والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان ، ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته ، إلى كده في حياته ، إلى نهايته ومماته . 
من ذلك مكابدته - صلى الله عليه وسلم - منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله ، ولحقت به أمه ، وهو في طفولته ، وبعد الوحي كابد مع قومه ولقي منهم عنتا شديدا ، حتى تآمروا على قتله ، فلكأنه يقول له : اصبر على ذلك ، فإن المكابدة لا بد منها ، وهي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك . 
وفي ذكر ووالد وما ولد  إشعار ببدء المكابدة ، وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة ، ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف . 
أما في الموضع الثاني : فالمقسم عليه ، وإن كان هو خلق الإنسان ، إلا أنه في أحسن تقويم ، وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضا للنعم ، وتعددها من التين والزيتون ، سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها ، وهو بيت المقدس  مع طور سينين    . 
 [ ص: 444 ] فجاء بمكة  أيضا ولكن بوصف مناسب ، فقال : وهذا البلد الأمين  ، فكأنه يقول : إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة ، أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته . والله تعالى أعلم . 
وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال ، في ظهورها واختفائها وجريانها ، وبـ " والليل إذا عسعس    " : أقبل وأدبر ، أو أضاء وأظلم ، " والصبح إذا تنفس    " : أي أظهر وأشرق ، وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها . 
والمقسم عليه : هو أن القرآن قول رسول كريم ، كأنه يقول : إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور ، وحال الناس معه كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة ، واختفائها أخرى . 
وكحال الليل والصبح ، فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره ، قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به ، فهو لهم روح ونور ، وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم ، عمى عنه بصائرهم ، وفي آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ، وأناس تارة وتارة كالنجوم أحيانا ، وأحيانا ، تارة ينقدح نوره في قلوبهم ، فتظهر معالمه فيسيرون معه ، وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم ، كما قال تعالى عنهم : كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا    [ 2 \ 20 ] . 
وليس بعيدا أن يقال : إنه من وجه آخر ، تعتبر النجوم كالكتب السابقة ، مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها . 
" والليل إذا عسعس    " : هو ظلام الجاهلية . 
" والصبح إذا تنفس    " : يقابله ظهور الإسلام ، وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار ، ولا تقوى قوة قط على حجبه ، وسيعم الآفاق كلها ، مهما وقفوا دونه : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون    [ 61 \ 8 ] . 
وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس ، ولا سيما وأني لم أقف على بحث مستقل فيه ، ولا توجيه يشير إليه ، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة ، وجدير بأن يفرد برسالة . 
 [ ص: 445 ] ومما اطرد فيه هذا التوجيه سورة " الضحى " ، يقول الله تعالى : والضحى  والليل إذا سجى  ما ودعك ربك وما قلى    [ 93 \ 1 - 3 ] ، فإن المقسم عليه عدم تركه - صلى الله عليه وسلم - ولا التخلي عنه ، فجاء بالمقسم به قسمي الزمن ليلا ونهارا ، كأنه يقول له : ما قلاك ربك ولا تخلى عنك ، لا في ضحى النهار حيث تنطلق لسعيك ، ولا في ظلمة الليل حين تأوي إلى بيتك . 
ومعلوم ما كان من عمه أبي طالب  حينما كان يجعله ينام مع أولاده ليلا ، حتى إذا أخذ الجميع مضاجعهم يأتي خفية فيقيمه من مكانه . ويضع أحد أولاده محله ، حتى لو كان أحد نواه بسوء ، وقد رآه في مكانه الأول يصادف ولده ، ويسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم . 
وقوله : وللآخرة خير لك من الأولى    [ 93 \ 4 ] ، أي : من كل ما طلعت عليه الشمس وسجاه الليل . 
ومنه أيضا : وهو أشد ظهورا في سورة " العصر " قال تعالى : والعصر  إن الإنسان لفي خسر  إلا الذين آمنوا    [ 103 \ 1 - 3 ] ، إلى آخر السورة . فإن المقسم عليه هو حالة الإنسان ، الغالية عليه من خسر ، إلا من استثنى الله تعالى ، فكان المقسم به ، والعصر المعاصر للإنسان طيلة حياته وهو محل عمله ، الذي به يخسر ويربح . وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه . 
وكنت قد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - يقول : إن العمر وزمن الحياة حجة على الإنسان  كالرسالة والنذارة سواء ، وذكر قوله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير    [ 35 \ 37 ] ، فجعل في الآية التعمير ، وهو إشغال العمر موجبا للتذكر والتأمل ، ومهلة للعمل ، كما تخبر إنسانا بأمر ثم تمهله إلى أن يفعل ما مر به ، فهو أمكن في الحجة عليه . 
فكان القسم في العصر على الربح والخسران ، أنسب ما يكون بينهما ، إذ جعلت حياة الإنسان كسوق قائمة والسلعة فيه العمل والعامل هو الإنسان ، كما قال تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم  تؤمنون بالله    [ 61 \ 10 - 11 ] . 
وفي الحديث الصحيح عند مسلم    : " سبحان الله تملأ الميزان   " ، وفيه " كل الناس   [ ص: 446 ] يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها   " ، فإن كان يشغل عمره في الخير فقد ربح ، وأعتق نفسه وإلا فقد خسر وأهلكها " . 
ويشير لذلك أيضا قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة    [ 9 \ 111 ] . 
فصح أن الدنيا سوق ، والسلعة فيها عمل الإنسان ، والمعاملة فيه مع الله تعالى ، فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به ، والمقسم عليه . 
				
						
						
