[ ص: 30 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29068_26777إنا أنزلناه في ليلة القدر .
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعا .
وحكى
الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولا ضعيفا لا يعتبر من أنه
لجبريل .
وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تنزل الملائكة والروح فيها [ 97 \ 4 ] .
والمشهور : أن الروح هنا هو
جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيما لشأن القرآن ، وإشعارا بعلو قدره .
وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1اقرأ باسم ربك ، ثم جاءت :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا ، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر [ 15 \ 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع .
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، والمراد به القرآن قطعا ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى .
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله :
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=1إنا أرسلنا نوحا [ 71 \ 1 ] ،
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=43إنا نحن نحيي ونميت [ 50 \ 43 ] ، وإنزال القرآن منة عظمى .
[ ص: 31 ] وقد دل على تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته [ 38 \ 29 ] ، فقال : كتاب أنزلناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كتاب أنزلناه إليك مبارك .
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=71إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني أعلم ما لا تعلمون [ 2 \ 30 ] .
ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله .
والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق . ثم اختلف في
nindex.php?page=treesubj&link=28864المنزل ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض ؟
فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي : بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : " ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة " .
وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع .
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، وحكاه
الألوسي وحكى عليه الإجماع .
وعن
ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين ،
[ ص: 32 ] وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، في ليلة القدر .
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول
nindex.php?page=treesubj&link=28863كيفية نزول القرآن ، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن
جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن الله لم يتكلم به عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل سماحة الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=16900محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ، فكان كافيا . وقد نقل فيه كلام
ابن تيمية ، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك .
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما ; لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على
محمد صلى الله عليه وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما .
ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ; لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تنزل الملائكة [ 97 \ 4 ] ، أي : في كل ليلة قدر .
وقد جاء أنزلناه ، فتدل على الجملة .
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009847 " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير " الحديث في صحيح البخاري .
[ ص: 33 ] وفي
أبي داود وغيره : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009848إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان " .
وعلى هذا يكون القرآن موجودا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل منجما في عشرين سنة . وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه
جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث . والله تعالى أعلم .
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول الوحي وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي .
وقيل : معنى
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1أنزلناه في ليلة القدر أي : أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيما لها ، فلم تكن ظرفا على هذا الوجه .
والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكنا إلا أن ما بعده يغني عنه ; لأن إعظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلا ، وهو ما بعدها مباشرة في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 2 - 3 ] ، إلى آخر السورة .
وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها .
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما بين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقا عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
[ ص: 30 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ الْقَدْر
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29068_26777إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .
الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ لِلْقُرْآنِ قَطْعًا .
وَحَكَى
الْأَلُوسِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، وَقَالَ : مَا يُفِيدُ أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا ضَعِيفًا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَنَّهُ
لِجِبْرِيلَ .
وَمَا قَالَهُ عَنِ الضَّعْفِ لِهَذَا الْقَوْلِ ، يَشْهَدُ لَهُ السِّيَاقُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [ 97 \ 4 ] .
وَالْمَشْهُورُ : أَنَّ الرُّوحُ هُنَا هُوَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَا لِغَيْرِهِ ، وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْقُرْآنِ ، وَإِشْعَارًا بِعُلُوِّ قَدْرِهِ .
وَقَدْ يُقَالُ : ذِكْرُ سُورَةِ الْقَدْرِ قَبْلَهَا مُشْعِرَةٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، ثُمَّ جَاءَتْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ، أَيِ الْقُرْآنَ الْمَقْرُوءَ ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ فِي إِنَّا ، وَنَا فِي إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْجَمْعِ وَلِلتَّعْظِيمِ ، وَمِثْلُهَا نَحْنُ ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [ 15 \ 9 ] ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا التَّعْظِيمُ قَطْعًا لِاسْتِحَالَةِ التَّعَدُّدِ أَوْ إِرَادَةِ مَعْنَى الْجَمْعِ .
فَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [ 39 \ 23 ] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَطْعًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الضَّمَائِرِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِالِاخْتِصَاصِ تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِنَّا ، وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ تَعْظِيمٍ وَاخْتِصَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ ، وَمِثْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ 108 \ 1 ] ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=1إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا [ 71 \ 1 ] ،
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=43إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [ 50 \ 43 ] ، وَإِنْزَالُ الْقُرْآنِ مِنَّةٌ عُظْمَى .
[ ص: 31 ] وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْمِنَّةِ وَتَعْظِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ 38 \ 29 ] ، فَقَالَ : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ بِضَمِيرِ التَّعْظِيمِ ، ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ الْكِتَابِ : مُبَارَكٌ .
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ ص هَذِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ .
وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ جَاءَتِ الضَّمَائِرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِيَغِ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ وَبِصِيَغِ الْإِفْرَادِ ، فَمِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ مَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ صِيَغِ الْإِفْرَادِ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [ 2 \ 30 ] ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=71إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [ 38 \ 71 ] ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [ 2 \ 30 ] .
وَيُلَاحَظُ فِي صِيَغِ الْإِفْرَادِ : أَنَّهَا فِي مَوَاضِعِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ ، كَالْأَوَّلِ فِي مَقَامِ خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ طِينٍ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ .
وَالثَّانِي : فِي مَقَامِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَسَوَاءٌ جِيءَ بِضَمِيرٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ ، فَفِيهَا كُلِّهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَوَاءٌ بِنَصِّهَا وَأَصْلِ الْوَضْعِ أَوْ بِالْقَرِينَةِ فِي السِّيَاقِ . ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28864الْمُنْزَلِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، هَلْ هُوَ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ ؟
فَقِيلَ : وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ أَوَائِلُ تِلْكَ السُّورَةِ فَقَطْ أَيْ : بِدَايَةُ الْوَحْيِ بِالْقُرْآنِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " ثُمَّ تَتَالَى نُزُولُ الْوَحْيِ ، بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً " .
وَقِيلَ : الْمُنْزَلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، هُوَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، وَكُلُّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ صَارَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا حَسَبَ الْوَقَائِعِ .
وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ عِنْدُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [ 2 \ 185 ] ، وَحَكَّاهُ
الْأَلُوسِيُّ وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ .
وَعَنِ
ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي ، وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ
ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ،
[ ص: 32 ] وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، بِأَنْ يَكُونَ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَبَدْءِ نُزُولِ أَوَّلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ 96 \ 1 ] ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .
وَقَدْ أُثِيرَ حَوْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جِدَالٌ وَنِقَاشٌ كَلَامِيٌّ حَوْلَ
nindex.php?page=treesubj&link=28863كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ
جِبْرِيلَ نَقَلَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ سُئِلَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ
nindex.php?page=showalam&ids=16900مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَكُتِبَ جَوَابُهُ وَطُبِعَ ، فَكَانَ كَافِيًا . وَقَدْ نَقَلَ فِيهِ كَلَامَ
ابْنِ تَيْمِيَّةَ ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ وَحْيِهِ ، وَرَدَّ عَلَى كُلِّ شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ .
وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَيْنَ كَوْنِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً ، وَنُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا ; لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، فَإِنَّ اللَّوْحَ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ اللَّهُ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَنُزُولُهُ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ نَقْلِ جُزْءٍ مِمَّا فِي اللَّوْحِ وَهُوَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ ، فَأَصْبَحَ الْقُرْآنُ مَوْجُودًا فِي كُلٍّ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ ، وَمَوْجُودًا فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْآنَ هُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْهُ اللَّوْحُ ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِإِنْزَالِهِ جُمْلَةً ثُمَّ تَنْزِيلِهِ مُنَجَّمًا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ 15 \ 9 ] ; لِأَنَّ نَزَّلَ بِالتَّضْعِيفِ تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ [ 97 \ 4 ] ، أَيْ : فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ .
وَقَدْ جَاءَ أَنْزَلْنَاهُ ، فَتَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ تَفْصِيلَ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009847 " إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ : كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا : الْحَقَّ ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ .
[ ص: 33 ] وَفِي
أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009848إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ " .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مَوْجُودًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ حِينَمَا جَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ ، ثُمَّ جَرَى نَقْلُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً . وَكُلَّمَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَ شَيْءٍ مِنْهُ تَكَلَّمَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَرَادَ أَنْ يُنْزِلَهُ ، فَيَسْمَعُهُ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تِلْكَ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى صُوَرِ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَتَلَقِّي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَحْيِ .
وَقِيلَ : مَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ : أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فِي شَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَعْظِيمًا لَهَا ، فَلَمْ تَكُنْ ظَرْفًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَالْوَاقِعُ : أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْأُسْلُوبِ مُمْكِنًا إِلَّا أَنَّ مَا بَعْدَهُ يُغْنِي عَنْهُ ; لِأَنَّ إِعْظَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانَ مَنْزِلَتِهَا قَدْ نَزَلَ فِيهَا قُرْآنٌ فِعْلًا ، وَهُوَ مَا بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ 97 \ 2 - 3 ] ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ .
وَعَلَيْهِ ، فَيَكُونُ أَوَّلُ السُّورَةِ فِي شَأْنِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِ ظَرْفِ إِنْزَالِهِ ، وَآخِرُ السُّورَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانِ مَنْزِلَتِهَا .
وَقَدْ ذُكِرَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مُبْهَمَةً ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا بَيْنَ الشَّهْرِ الَّتِي هِيَ فِيهِ ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [ 2 \ 185 ] .
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ بَيَانُ ذَلِكَ ، وَأَنَّهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي فِيهَا يُبْرَمُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، وَلَيْسَتْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ .
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ ، بَيَانُ الْحِكْمَةِ مِنْ إِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ 38 \ 29 ] .