تنبيه
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة
أهل الكتاب لحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008028سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29069_28753منفكين حتى تأتيهم البينة ، اختلف في " منفكين " اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين ، حتى قال
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه : قال
الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء .
ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها .
وأنا أقول وجه الإشكال : أن تقدير الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه .
فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم قال بعد ذلك
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=4وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن . ا هـ . حرفيا .
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين ، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين : وعليه جميع المفسرين .
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أن منفكين أي :
[ ص: 42 ] مرتدعين عن الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة ، أي : أتتهم .
ولكن في منفكين ، وجه يرفع هذا الإشكال ، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ 75 \ 36 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=1الم nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=2أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ 29 \ 1 - 2 ] ، أي : لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=53قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] .
وقد حكى
أبو حيان قولا عن
ابن عطية قوله : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا هـ .
فقول
ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه ، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين ، كما أسلفنا .
ولابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله ، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال :
وفي معنى قوله تعالى : لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين .
ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين .
هل المراد : لم يكونوا منفكين عن الكفر ؟
أو هل لم يكونوا مكذبين
بمحمد حتى بعث ، فلم يكونوا منفكين من
محمد والتصديق بنبوته حتى بعث .
أو المراد : أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول .
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال : فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه
[ ص: 43 ] لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مفكوكين ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل .
والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا ، وهذا كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون البتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى .
وقريب من ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=3إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=4وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=5أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 3 - 5 ] . وهذا استفهام إنكار أي : لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل .
تبين من ذلك كله أن الأصح في " منفكين " معنى " متروكين " وبه يزول الإشكال الذي أورده
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1حتى تأتيهم البينة nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=2رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .
أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=2رسول من الله يتلو صحفا .
وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ 2 \ 146 ] .
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم .
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق
أهل الكتاب ، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009851كلا والله لن يخزيك الله ، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر " إلى آخره .
وقول عمه
أبي طالب : "
والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة " إلخ . وقد لقبوه بالأمين .
[ ص: 44 ] وحادثة شق الصدر في رضاعه ، بل وقيل ذلك في قصة أبيه
عبد الله ، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها ، فأبى . ولما تزوج ودخل
بآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك ، فقالت له : لا حاجة لي بك ، فقال : وكيف كنت تتعرضين لي ؟ فقالت : رأيت نورا في وجهك ، فأحببت أن يكون لي ، فلما تزوجت وضعته في
آمنة ولم أره فيك الآن ، فلا حاجة لي فيك .
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم ، ثم أكرمه الله بالرسالة ، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة ، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن .
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 49 ] فعليه يكون "
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=2رسول من الله " بدل من " البينة " مرفوع على البدلية ، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة .
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة . وعلى كل ، فإن البينة تصدق على الجميع ، كما تصدق على المجموع ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا رسول إلا برسالة تتلى ، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها .
وقد عرف لفظ البينة ، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها .
فكأنه قيل : حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم ، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار
عيسى عليه السلام عنه ، وآخر سورة الفتح :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه الآية [ 48 \ 29 ] .
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=3فيها كتب .
جمع كتاب ، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : كتب : بمعنى مكتوبات .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة . يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وحكاه
ابن كثير واقتصر عليه .
وقال
القرطبي : إن الكتب بمعنى الأحكام ، مستدلا بمثل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كتب عليكم الصيام [ 2 \ 183 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=21كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] .
[ ص: 45 ] وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، فجعله كتبا ; لأنه يشتمل على أبواب من البيان .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي : أنه يحتمل في كتب أي : الآيات المكتوبة في المصحف ، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .
وقال
الشوكاني : المراد : الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة ، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام .
والذي يظهر أن مدلول " كتب " على ظاهرها ، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة ، كما ينص عليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=16بل تؤثرون الحياة الدنيا nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=17والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=18إن هذا لفي الصحف الأولى nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=19صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 19 ] ، وكقوله في عموم الكتب الأولى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ 46 \ 30 ] ، وقوله : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل [ 3 \ 3 - 4 ] .
ولذا قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ 6 \ 114 ] ، أي : بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها ، كما في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=34ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم [ 24 \ 34 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=76إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 \ 76 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=92وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، مما يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28901_28891آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل ، وقد جاء عمليا في آية الرحمن ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45وكتبنا عليهم فيها أي : في التوراة
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45أن النفس بالنفس والعين بالعين ، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم ، كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة [ 2 \ 179 ] .
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009853أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بن كعب : " أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة ، فقال : أوذكرت ثم ؟ " .
[ ص: 46 ] وبكى رضي الله عنه ; لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة ، والتي يعرفها
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها ، كما هو معروف في القصة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=29069_29434وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من
أهل الكتاب والمشركين معا ، وهنا الحديث عن
أهل الكتاب فقط ، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين ، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب ، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم ، وبما سيأتي به ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ 2 \ 89 ] .
وكقوله صراحة :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=14وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ 42 \ 14 ] ، فلمعرفتهم به قبل مجيئه ، واختلافهم فيه بعد مجيئه ، وخصهم هنا بالذكر في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=4وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
تنبيه
مما يدل على ما ذكرنا من معنى "
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=3كتب قيمة " ، أمران من كتاب الله :
الأول منها : اختصاص
أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا ، وما قدمنا من نصوص .
الثاني : أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] ، فهذا نفس الأسلوب ، ولكن قال : " آياته " ; لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى ، فاقتصر على الآيات .
تَنْبِيهٌ
بَقِيَ الْمَجُوسُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ
أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008028سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29069_28753مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، اخْتُلِفَ فِي " مُنْفَكِّينَ " اخْتِلَافًا كَثِيرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ ، حَتَّى قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عِنْدَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَصُّهُ : قَالَ
الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ الْبَسِيطِ : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا ، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ .
ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا .
وَأَنَا أَقُولُ وَجْهَ الْإِشْكَالِ : أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْ مَاذَا ، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ ، إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ .
فَصَارَ التَّقْدِيرُ : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=4وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ تَنَاقُضٌ فِي الظَّاهِرِ ، هَذَا مُنْتَهَى الْإِشْكَالِ فِيمَا أَظُنُّ . ا هـ . حَرْفِيًا .
وَقَدْ سُقْتُ كَلَامَهُ لِبَيَانِ مَدَى الْإِشْكَالِ فِي الْآيَتَيْنِ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى تَارِكِينَ : وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ .
وَالَّذِي جَاءَ عَنِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ : أَنَّ مُنْفَكِّينَ أَيْ :
[ ص: 42 ] مُرْتَدِعِينَ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، أَيْ : أَتَتْهُمْ .
وَلَكِنْ فِي مُنْفَكِّينَ ، وَجْهٌ يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى مَتْرُوكِينَ لَا بِمَعْنَى تَارِكِينَ ، أَيْ : لَمْ يَكُونُوا جَمِيعًا مَتْرُوكِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [ 75 \ 36 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=1الم nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=2أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [ 29 \ 1 - 2 ] ، أَيْ : لَنْ يُتْرَكُوا وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=53قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [ 11 \ 53 ] .
وَقَدْ حَكَى
أَبُو حَيَّانَ قَوْلًا عَنِ
ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ : وَيَتَّجِهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ ، حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا ، تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَيُتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا لِيُتْرَكُوا سُدًى ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ا هـ .
فَقَوْلُ
ابْنِ عَطِيَّةَ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَيُزِيلُ الْإِشْكَالَ الْكَبِيرَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ ، كَمَا أَسْلَفْنَا .
وَلِابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ نَسُوقُهُ لِشُمُولِهِ ، وَهُوَ ضِمْنُ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجْمُوعِ مُجَلَّدِ 61 ص 594 قَالَ :
وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ .
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
هَلِ الْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الْكُفْرِ ؟
أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ
بِمُحَمَّدٍ حَتَّى بُعِثَ ، فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مِنْ
مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ .
أَوِ الْمُرَادُ : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ .
وَنَاقَشَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ وَرَدَّهَا كُلَّهَا ثُمَّ قَالَ : فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ، أَيْ : لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ
[ ص: 43 ] لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ ، كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ مَفْكُوكِينَ ، بَلْ قَالَ : مُنْفَكِّينَ ، وَهَذَا أَحْسَنُ ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ .
وَالْمَعْنَى : أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ ، فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، لَا يُؤْمَرُ ، وَلَا يُنْهَى ، أَيْ : أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى .
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=3إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=4وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=5أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [ 43 \ 3 - 5 ] . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ : لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إِنْزَالَ الذِّكْرِ ، وَنُعْرِضُ عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ .
تَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي " مُنْفَكِّينَ " مَعْنَى " مَتْرُوكِينَ " وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ ، وَيَسْتَقِيمُ السِّيَاقُ ، وَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=1حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=2رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً .
أَجْمَلَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ فَصَّلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=2رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا .
وَفِي هَذَا قِيلَ : إِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نَفْسُ الرَّسُولِ فِي شَخْصِهِ ، لِمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ مَجِيئِهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [ 2 \ 146 ] .
فَكَأَنَّ وُجُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ .
وَلِذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَوْمَ مَوْلِدِهِ بِظُهُورِ نَجْمِ نَبِيِّ الْخِتَانِ إِلَى آخَرِ أَخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ عَنْ طَرِيقِ
أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَبِمَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَتْ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10640خَدِيجَةُ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ لَهُ وَفَزَعِهِ مِنْهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009851كَلَّا وَاللَّهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللَّهُ ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ " إِلَى آخِرِهِ .
وَقَوْلِ عَمِّهِ
أَبِي طَالِبٍ : "
وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ لَعِبَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ كِذْبَةً " إِلَخْ . وَقَدْ لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ .
[ ص: 44 ] وَحَادِثَةُ شَقِّ الصَّدْرِ فِي رِضَاعِهِ ، بَلْ وَقِيلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أَبِيهِ
عَبْدِ اللَّهِ ، لَمَّا تَعَرَّضَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرِيدُهُ لِنَفْسِهَا ، فَأَبَى . وَلَمَّا تَزَوَّجَ وَدَخَلَ
بِآمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ لَهُ : لَا حَاجَةَ لِي بِكَ ، فَقَالَ : وَكَيْفَ كُنْتِ تَتَعَرَّضِينَ لِي ؟ فَقَالَتْ : رَأَيْتُ نُورًا فِي وَجْهِكَ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي ، فَلَمَّا تَزَوَّجْتَ وَضَعْتَهُ فِي
آمِنَةَ وَلَمْ أَرَهُ فِيكَ الْآنَ ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيكَ .
فَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَخْصِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالرِّسَالَةِ ، فَكَانَ رَسُولًا يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ، مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالزَّيْغِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ .
وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [ 33 \ 49 ] فَعَلَيْهِ يَكُونُ "
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=2رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ " بَدَلٌ مِنَ " الْبَيِّنَةِ " مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ ، أَوْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ .
فَالتَّشْرِيعُ الَّذِي فِيهَا وَالْإِخْبَارُ الَّذِي أَعْلَنَهُ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ . وَعَلَى كُلٍّ ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تَصْدُقُ عَلَى الْجَمِيعِ ، كَمَا تَصْدُقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ ، وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ ، فَلَا رَسُولَ إِلَّا بِرِسَالَةٍ تُتْلَى ، وَلَا رِسَالَةَ تُتْلَى إِلَّا بِرَسُولٍ يَتْلُوهَا .
وَقَدْ عُرِّفَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُودِ عِلْمٍ عَنْهَا مُسْبَقٍ عَلَيْهَا .
فَكَأَنَّهُ قِيلَ : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الْمَوْصُوفَةُ لَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَخْبَارِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ ، وَآخَرِ سُورَةِ الْفَتْحِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ الْآيَةَ [ 48 \ 29 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=3فِيهَا كُتُبٌ .
جَمْعُ كِتَابٍ ، وَقَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ : كُتُبٌ : بِمَعْنَى مَكْتُوبَاتٍ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ : فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قَيِّمَةٌ . يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ .
وَحَكَاهُ
ابْنُ كَثِيرٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ
الْقُرْطُبِيُّ : إِنَّ الْكُتُبَ بِمَعْنَى الْأَحْكَامِ ، مُسْتَدِلًّا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [ 2 \ 183 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=21كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [ 58 \ 21 ] .
[ ص: 45 ] وَقِيلَ : الْكُتُبُ الْقَيِّمَةُ : هِيَ الْقُرْآنُ ، فَجَعَلَهُ كُتُبًا ; لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْوَابٍ مِنَ الْبَيَانِ .
وَذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِي كُتُبٍ أَيِ : الْآيَاتُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْمُصْحَفِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ .
وَقَالَ
الشَّوْكَانِيُّ : الْمُرَادُ : الْآيَاتُ وَالْأَحْكَامُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهَا ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَدَلُّ عَلَى تَضَمُّنِ مَعْنَى كُتُبٍ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى كِتَابَةِ أَحْكَامٍ .
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَدْلُولَ " كُتُبٌ " عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَهُوَ تَضَمُّنُ تِلْكَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ لِكُتُبٍ سَابِقَةٍ قَيِّمَةٍ ، كَمَا يَنُصُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=16بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=17وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=18إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=19صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [ 87 \ 19 ] ، وَكَقَوْلِهِ فِي عُمُومِ الْكُتُبِ الْأُولَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [ 46 \ 30 ] ، وَقَوْلِهِ : نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ [ 3 \ 3 - 4 ] .
وَلِذَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [ 6 \ 114 ] ، أَيْ : بِمَا فِيهِ مِنْ كُتُبِهِمُ الْقَيِّمَةِ الْمُتَقَدِّمِ إِنْزَالُهَا ، كَمَا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=34وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [ 24 \ 34 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=76إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [ 27 \ 76 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=92وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [ 6 \ 92 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28901_28891آيَ الْقُرْآنِ مُتَضَمِّنَةٌ كُتُبًا قَيِّمَةً مِمَّا أُنْزِلَتْ مِنْ قَبْلُ ، وَقَدْ جَاءَ عَمَلِيًّا فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْ : فِي التَّوْرَاةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، فَهَذِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ، كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ 2 \ 179 ] .
وَلَعَلَّ هَذَا بَيَّنَ وَجْهَ الْمَعْنَى فِيمَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَدَ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009853أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=34لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : " أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ الْبَيِّنَةِ ، فَقَالَ : أَوَذُكِرْتُ ثَمَّ ؟ " .
[ ص: 46 ] وَبَكَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةٍ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ بِأَنَّهُ آمَنَ بِكِتَابٍ تَضَمَّنَ الْكُتُبَ الْقَيِّمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ ، وَالَّتِي يَعْرِفُهَا
nindex.php?page=showalam&ids=106عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا غَطَّاهَا الْآتِي بِهَا ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْقِصَّةِ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=29069_29434وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ .
يُلَاحَظُ أَنَّ السُّورَةَ فِي أَوَّلِهَا عَنِ الْكُفَّارِ عُمُومًا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مَعًا ، وَهُنَا الْحَدِيثُ عَنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَخُصُّهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كُتَّابٍ ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِمَا سَيَأْتِي بِهِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [ 2 \ 89 ] .
وَكَقَوْلِهِ صَرَاحَةً :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=14وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [ 42 \ 14 ] ، فَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ ، وَخَصَّهُمْ هُنَا بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=4وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ .
تَنْبِيهٌ
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى "
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=3كُتُبٌ قَيِّمَةٌ " ، أَمْرَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ :
الْأَوَّلُ مِنْهَا : اخْتِصَاصُ
أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا بِعَدَمِ عُمُومِ الْحَدِيثِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ذَكَرَ الرَّسُولَ يَتْلُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [ 62 \ 2 ] ، فَهَذَا نَفْسُ الْأُسْلُوبِ ، وَلَكِنْ قَالَ : " آيَاتِهِ " ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْكُتُبِ الْأُخْرَى ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْآيَاتِ .