قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=29069_28917إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية .
قرئت البرية بالهمزة وبالياء ، فقرأ بالهمز :
نافع وابن ذكوان والباقون بالياء ، فاختلف في أخذها .
قال
القرطبي : قال
الفراء : إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء : أي التراب . فأصله غير مهموز بقوله منه : براه الله يبروه بروا ، أي : خلقه ، وقيل : البرية من بريت القلم أي قدرته .
وقد تضمنت هذه الآية مسألتين : الأولى منهما : أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها ، ومبحث
nindex.php?page=treesubj&link=30431خلود الكفار في النار ، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيا .
والمسألة الثانية أنهم شر البرية ، والبرية أصلها البريئة ، قلبت الهمزة ياء تسهيلا ، وأدغمت الياء في الباء ، والبريئة الخليقة ، والله تعالى بارئ النسم ، هو الخالق البارئ المصور سبحانه .
ومن البرية الدواب والطيور ، وهنا النص على عمومه ، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب .
وقد جاء النص صريحا في هذا المعنى في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=22إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] ، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=23أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقال عنهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=40أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين [ 43 \ 40 ] ، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين .
وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين ; لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله ، كما جاء في هدهد
سليمان ، أنكر على
بلقيس وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله .
ونص
مالك في الموطأ في فضل يوم الجمعة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009854أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من [ ص: 50 ] فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة " ، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء ، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء ، فيقول لها : كوني ترابا ، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له ، كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=40يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .
وذلك والله تعالى أعلم : أن
nindex.php?page=treesubj&link=30364_30355الدواب لم تعمل خيرا فتبقى لتجازى عليه ، ولم تعمل شرا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها ، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها ، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب . بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار ، فكان شر البرية .
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=29069_29468إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية .
الحكم هنا بالعموم ، كالحكم هناك ، ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل .
أما من حيث الجنس فلا إشكال ; لأن الإنسان أفضل الأجناس
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=70ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] .
وأما من حيث العموم ، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28736صالح المؤمنين أفضل من الملائكة .
ولعل مما يقوي هذا الاستدلال ، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ، ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة ؟ هذا هو محل الخلاف .
وللقرطبي مبحث في ذلك : مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب ، فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل .
وأما من جهة النصوص ، فقال في سورة البقرة عند قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم [ 2 \ 33 ] ، قال المسألة الثالثة : اختلف العلماء في هذا الباب
nindex.php?page=treesubj&link=28736أيهما أفضل ، الملائكة أو بنو آدم ؟ على قولين : فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة .
[ ص: 51 ] وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل ، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ 6 \ 50 ] .
وبما في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري يقول الله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009855من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملأ الأرض .
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ 98 \ 7 ] ، بالهمز من برأ الله الخلق ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009856إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم " أخرجه
أبو داود .
وبأن الله يباهي بأهل
عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم .
وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم ; لأن طريق ذلك خبر الله ، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الأمة .
وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا
للقدرية والقاضي أبي بكر ، حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا
والشيعة : إن الأنبياء أفضل ; لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إلى آخره .
ثم رد هذا الاستدلال .
وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية ، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية ، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة ، والملائكة فيهم النص بأنهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=26عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] ، والبشر فيهم النص
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=70ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] ، والفرق بينهما كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة .
ففي الملائكة بالاسم : مكرمون ، وهو يدل على الدوام والثبوت ، وفي بني آدم كرمنا ، وهو يدل على التجدد والحدوث .
وهذا هو الواقع ، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم
[ ص: 52 ] وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن
nindex.php?page=treesubj&link=28736_30482التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني .
وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر ، ثم هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد .
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حق من يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009857بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون " .
وحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009858سبق درهم مائة ألف درهم " وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ; لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير .
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة ; فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . والله تعالى أعلم .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=29069_28917إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ .
قُرِئَتِ الْبَرِيَّةُ بِالْهَمْزَةِ وَبِالْيَاءِ ، فَقَرَأَ بِالْهَمْزِ :
نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ ، فَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِهَا .
قَالَ
الْقُرْطُبِيُّ : قَالَ
الْفَرَّاءُ : إِنْ أُخِذَتِ الْبَرِيَّةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ : أَيِ التُّرَابِ . فَأَصْلُهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ بِقَوْلِهِ مِنْهُ : بَرَاهُ اللَّهُ يَبْرُوهُ بَرْوًا ، أَيْ : خَلَقَهُ ، وَقِيلَ : الْبَرِيَّةُ مَنْ بَرَيْتُ الْقَلَمَ أَيْ قَدَرْتُهُ .
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْأَلَتَيْنِ : الْأُولَى مِنْهُمَا : أَنَّ أُولَئِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ، وَمَبْحَثُ
nindex.php?page=treesubj&link=30431خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ، تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ وَافِيًا .
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ، وَالْبَرِيَّةُ أَصْلُهَا الْبَرِيئَةُ ، قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً تَسْهِيلًا ، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْبَاءِ ، وَالْبَرِيئَةُ الْخَلِيقَةُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَارِئُ النَّسَمِ ، هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ سُبْحَانَهُ .
وَمِنَ الْبَرِيَّةِ الدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ ، وَهُنَا النَّصُّ عَلَى عُمُومِهِ ، فَأَفْهَمَ أَنَّ أُولَئِكَ شَرٌّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالدَّوَابِّ .
وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ صَرِيحًا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=22إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [ 8 \ 22 ] ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=23أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [ 47 \ 23 ] ، وَقَالَ عَنْهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=40أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [ 43 \ 40 ] ، فَهُمْ لِصَمَمِهِمْ وَعَمَاهُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّوَابَّ لَيْسَتْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ; لِأَنَّهَا تَعْلَمُ وَتُؤْمِنُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي هُدْهُدِ
سُلَيْمَانَ ، أَنْكَرَ عَلَى
بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا سُجُودَهُمْ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
وَنَصُّ
مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009854أَنَّهُ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا تُصِيخُ بِأُذُنِهَا مِنْ [ ص: 50 ] فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ خَشْيَةَ السَّاعَةِ " ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ عِنْدَ الْكَافِرِ مِنْهُ شَيْءٌ ، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ لَمَّا يَجْمَعُ اللَّهُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ وَيَقْتَصُّ لِلْعَجْمَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ، فَيَقُولُ لَهَا : كُونِي تُرَابًا ، فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ لَوْ كَانَ مِثْلَهَا فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ ، كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=40يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [ 78 \ 40 ] .
وَذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30364_30355الدَّوَابَّ لَمْ تَعْمَلْ خَيْرًا فَتَبْقَى لِتُجَازَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ تَعْمَلْ شَرًّا لِتُعَاقَبَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لَا لَهَا وَلَا عَلَيْهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَعْضِهَا ، فَلَمَّا اقْتُصَّ لَهَا مِنْ بَعْضِهَا انْتَهَى أَمْرُهَا ، فَكَانَتْ نِهَايَتُهَا عَوْدَتَهَا إِلَى مَنْبَتِهَا وَهُوَ التُّرَابُ . بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ حِسَابَ التَّكَالِيفِ وَعِقَابَ الْمُخَالَفَةِ فَيُعَاقَبُ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ ، فَكَانَ شَرَّ الْبَرِيَّةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=29069_29468إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ .
الْحُكْمُ هُنَا بِالْعُمُومِ ، كَالْحُكْمِ هُنَاكَ ، وَلَكِنَّهُ هُنَا بِالْخَيْرِيَّةِ وَالتَّفْضِيلِ .
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ الْأَجْنَاسِ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=70وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [ 17 \ 70 ] .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28736صَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ .
وَلَعَلَّ مِمَّا يُقَوِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ، هُوَ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ أَفْرَادِ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا فُضِّلَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْجِنْسِ لَا يُمْنَعُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ ، وَلَكِنْ هَلْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ أَوْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ ؟ هَذَا هُوَ مَحَلَّ الْخِلَافِ .
وَلِلْقُرْطُبِيِّ مَبْحَثٌ فِي ذَلِكَ : مَبْنَاهُ عَلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ وَوُرُودِ النُّصُوصِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْمَادَّةِ إِنْ كَانَتِ الْبَرِيَّةُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْبَرْيِ وَهُوَ التُّرَابُ ، فَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ تَحْتَ هَذَا التَّفْضِيلِ وَإِلَّا فَتَدْخُلُ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [ 2 \ 33 ] ، قَالَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ
nindex.php?page=treesubj&link=28736أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ، الْمَلَائِكَةُ أَوْ بَنُو آدَمَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَذَهَبَ قَوْلٌ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، وَالْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ .
[ ص: 51 ] وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى أَفْضَلُ ، وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ 66 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [ 6 \ 50 ] .
وَبِمَا فِي
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ يَقُولُ اللَّهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009855مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ " وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى خَيْرٌ مِنْ مَلَأِ الْأَرْضِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [ 98 \ 7 ] ، بِالْهَمْزِ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009856إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ " أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُدَ .
وَبِأَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ
عَرَفَاتٍ الْمَلَائِكَةَ ، وَلَا يُبَاهِي إِلَّا بِالْأَفْضَلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ خَبَرُ اللَّهِ ، وَخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خِلَافًا
لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ، حَيْثُ قَالُوا : الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ . قَالَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا
وَالشِّيعَةِ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ ، إِلَى آخِرِهِ .
ثُمَّ رَدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ .
وَقَدْ سُقْنَا هَذَا الْبَحْثَ لِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبَرِيَّةِ ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ جِنْسَ الْبَشَرِ خِلَافُ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ ، وَالْمَلَائِكَةُ فِيهِمُ النَّصُّ بِأَنَّهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=26عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [ 21 \ 26 ] ، وَالْبَشَرُ فِيهِمُ النَّصُّ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=70وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [ 17 \ 70 ] ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ فِي الدَّلَالَةِ .
فَفِي الْمَلَائِكَةِ بِالِاسْمِ : مُكْرَمُونَ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ ، وَفِي بَنِي آدَمَ كَرَّمْنَا ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ .
وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ ، فَالتَّكْرِيمُ ثَابِتٌ وَلَازِمٌ وَدَائِمٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِخِلَافِهِ فِي بَنِي آدَمَ إِذْ فِيهِمْ
[ ص: 52 ] وَفِيهِمْ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28736_30482التَّفْضِيلَ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ صُدُورِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ ، إِذِ الْمَلَائِكَةُ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ جِبِلَّةً أَوْ بِدُونِ نَوَازِعِ شَرٍّ ، بِخِلَافِ بَنِي آدَمَ ، وَإِنَّ أَعْمَالَ الْخَيْرِ تَصْدُرُ عَنْهَا بِمَجْهُودٍ مُزْدَوَجٍ ، حَيْثُ رُكِّبَتْ فِيهِمُ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ وَالْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْجَانِبِ الْحَيَوَانِيِّ .
وَازْدِوَاجِيَّةُ الْمَجْهُودِ ، هُوَ أَنَّهُ يُنَازِعُ عَوَامِلَ الشَّرِّ حَتَّى يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا ، وَيَبْذُلَ الْجُهْدَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ ، فَهُوَ يُجَاهِدُ لِلتَّخْلِيصِ مِنْ نَوَازِعِ الشَّرِّ ، ثُمَّ هُوَ يُجَاهِدُ لِلْقِيَامِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ ، وَهَذَا مَجْهُودٌ يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَجْهُودِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ .
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ ، لَمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ مِنْهُمْ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ ، فَقَالُوا : خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009857بَلْ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ، لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ أَعْوَانًا عَلَى الْخَيْرِ وَهُمْ لَا يَجِدُونَ " .
وَحَدِيثُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009858سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ " وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّ الدِّرْهَمَ سَبَقَ الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ ; لِأَنَّهُ ثَانِي اثْنَيْنِ فَقَطْ ، وَالْمِائَةَ أَلْفٍ جُزْءٌ مِنْ مَجْمُوعٍ كَثِيرٍ .
فَالنَّفْسُ الَّتِي تَجُودُ بِنِصْفِ مَا تَمْلِكُ ، وَلَا يَتَبَقَّى لَهَا إِلَّا دِرْهَمٌ ، خَيْرٌ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ تُنْفِقُ جُزْءًا ضَئِيلًا مِمَّا تَمْلِكُ وَيَتَبَقَّى لَهَا الْمَالُ الْكَثِيرُ ، فَكَانَتْ عَوَامِلُ التَّصَدُّقِ وَدَوَافِعُهُ مُخْتَلِفَةً مُنَزَّلَةً فِي النَّفْسِ مُتَضَادَّةً ; فَالدِّرْهَمُ فِي ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ الْأُخْرَى ، لَمْ تَتَفَاوَتِ الْمَاهِيَّةُ وَلَا الْجِنْسُ ، وَلَكِنْ تَفَاوَتَتِ الدَّوَافِعُ وَالْعَوَامِلُ لِإِنْفَاقِهِ ، وَلَعَلَّ الْمُفَاضَلَةَ الْمَقْصُودَةَ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَوْلَى . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .