تنبيه
ذكر
أبو حيان في آخر تفسيره
nindex.php?page=treesubj&link=28881_29084_29085مقارنة لطيفة بين سورتي المعوذتين ، فقال : ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب ، والملك ، والإله ، وإن اتحد المطلوب .
[ ص: 183 ] وفي الاستعاذة من ثلاث : الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد ، بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه .
وهذه الأخرى لفتة كريمة ، طالما كنت تطلعت إليها في وجهتي نظر ، إحداهما : بين السورتين ، والأخرى بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، سيأتي إيرادهما إن شاء الله .
إلا أنه على وجهة نظر
أبي حيان ، وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي "
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1برب الفلق " .
وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات ، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور ، والمستعاذ منه في الثانية أمر واحد ، فلخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث .
ويقال أيضا من جهة أخرى : إن المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج الإنسان ، وتأتيه اعتداء عليه من غيره ، وقد تكون شرورا ظاهرة ، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه ، وتجنبه إذا علم به . بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه ، إذ الشيطان يرانا ولا نراه ، كما في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ 7 \ 27 ] .
وقد يثير عليه خلجات نفسه ونوازع فكره ، فلا يجد له خلاصا إلا بالاستعاذة واللجوء إلى رب الناس ملك الناس إله الناس .
أما الوجهتان اللتان نوهنا عنهما ، فالأولى بين السورتين وهي مما أورده
أبو حيان : إذ في سورة الفلق قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] ، ورب الفلق تعادل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين لأنه ما من موجود في هذا الكون إلا وهو مفلوق عن غيره .
ففي الزرع :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] .
وفي الزمن
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=96فالق الإصباح [ 6 \ 96 ] .
[ ص: 184 ] وفي الحيوانات :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] .
وفي الجمادات يشير إليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=31وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم [ 21 \ 30 - 31 ] .
فرب الفلق تعادل رب العالمين ، فقابلها في الاستعاذة بعموم المستعاذ منه ،
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=2من شر ما خلق .
ثم جاء ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به ، وهو " من شر غاسق إذا وقب " ، و " النفاثات في العقد " ، " وحاسد إذا حسد " .
فالمستعاذ به صفة واحدة ، والمستعاذ منه عموم ما خلق جملة وتفصيلا ، بينما في السورة الثانية جاء بالمستعاذ به ثلاث صفات هي صفات العظمة لله تعالى : الرب والملك والإله .
فقابل المستعاذ منه وهو شيء واحد فقط ، وهو الوسواس الخناس ، وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه .
وهو كذلك ; لأننا لو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلا أو آجلا ، لوجدناه بسبب الوسواس الخناس . وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان .
وأول جناية وقعت على الإنسان الأول ، إنما هي من هذا الوسواس الخناس ، وذلك أن الله تعالى لما كرم
آدم ، فخلقه بيده وأسجد الملائكة له وأسكنه الجنة هو وزوجه لا يجوع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، يأكلان منها رغدا حيث ما شاءا ، إلا من الشجرة الممنوعة ، فوسوس إليهما الشيطان حتى أكلا منها ودلاهما بغرور ، حتى أهبطوا منها جميعا بعضهم لبعض عدو .
وبعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما
قابيل وهابيل فلاحقهما أيضا بالوسوسة ، حتى طوعت نفس أحدهما قتل أخيه فأصبح من النادمين .
وهكذا بسائر الإنسان في حياته بالوسوسة حتى يربكه في الدنيا ، ويهلكه في
[ ص: 185 ] الآخرة ، ولقد اتخذ من المرأة جسرا لكل ما يريد . وها هو يعيد الكرة في نزع اللباس عن أبوينا في الجنة ، فينتزعه عنهما في ظل بيت الله الحرام في طوافهم قبل البعثة ولا يزال يغويه ، وعن طريق المرأة في كل زمان ومكان ليخرجه عن الاستقامة كما أخرج أبويه من الجنة .
ولا يزال يجلب على الإنسان بخيله ورجله بارا بقسمه بين يدي الله بعزته ليغوينهم أجمعين .
وإن أخطر أبواب الفساد في المجتمعات لهي عن المال أو الدم أو العرض ، كما في الحديث في حجة الوداع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009928 " ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا " إلى آخره .
وهل وجدت جناية على واحد منها إلا من تأثير الوسواس الخناس ؟ اللهم لا .
وهكذا في الآخرة .
وقد بين تعالى الموقف جليا في مقالة الشيطان البليغة الصريحة :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل الآية [ 14 \ 22 ] .
ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان هو الشك ولا طريق إليه إلا بالوسوسة ، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم ، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه ، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستقلال الحقيقي ، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع ، ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه ، فيبقى المسلمون يدورون في حلقة مفرغة ، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى .
والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدا ، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدا ، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط ، منذ أكثر من ثلاثين عاما ، حينما انعقد المؤتمر في (
بيروت ) لعرض نتائج أعمالهم ودراسة أساليب تبشيرهم .
[ ص: 186 ] فتشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل ، لم يستطيعوا أن ينصروا مسلما واحدا ، فقال رئيس المؤتمر : إذا لم نستطع أن ننصر مسلما ، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي ، فقد نجحنا في عملنا .
وهكذا منهج العدو ، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين ، فعن طريق الميراث تارة ، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى ، وعن دوافع القتال ، وعن استرقاق الرقيق ، وعن وعن .
حتى وجد من أبناء المسلمين من يتخطى حدود الشك إلى التصديق ، وأخذ يدعو إلى ما يدعو إليه العدو ، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس .
فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث :
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1برب الناس 30
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=2ملك الناس 30
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=3إله الناس .
هذه وجهة النظر الأولى بين سورتي الفلق والناس .
أما الوجهة الثانية وهي بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=3الرحمن الرحيم nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=4مالك يوم الدين nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهدنا الصراط المستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صراط الذين أنعمت عليهم [ 1 \ 2 - 7 ] .
وفي هذه البداية الكريمة بث الطمأنينة في القلب المعبر عنها بالحمد ، عنوان الرضى والسعادة والإقرار لله بالربوبية ، ثم الإيمان بالبعث والإقرار لله بملك يوم الدين ، ثم الالتزام بالعبادة لله وحده والالتجاء إليه مستعينا به ، مستهديا الصراط المستقيم ، سائلا صحبة الذين أنعم عليهم .
ثم يأتي بعدها مباشرة في أول سورة البقرة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] أي : إن الهدى الذي تنشده إلى الصراط المستقيم ، فهو في هذا الكتاب لا ريب فيه ، ثم بين المتقين الذين أنعم الله عليهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون [ 2 \ 3 - 4 ] .
ومرة أخرى للتأكيد : أولئك لا سواهم
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 5 ] .
[ ص: 187 ] ثم تترسل السورة في تقسيم الناس إلى الأقسام الثلاثة : مؤمنين ، وكافرين ، ومذبذبين بين بين ، وهم المنافقون .
ثم يأتي النداء الصريح وهو أول نداء في المصحف لعموم الناس
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، ويقيم البراهين على استحقاقه للعبادة وعلى إمكان البعث بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] .
وبعد تقرير الأصل وهي العقيدة ، تمضي السورة في ذكر فروع الإسلام ، فتشتمل على أركان الإسلام كلها وعلى كثير من مسائل المعاملات والجهاد ، وقل باب من أبواب الفقه إلا وله ذكر في هذه السورة ، ويأتي ما بعدها مبينا لما أجمل فيها أو لما يذكر ضمنها .
وهكذا حتى ينتهي القرآن بكمال الشريعة وتمام الدين .
ولما جاء في وصف المتقين المهتدين في أول المصحف ، أنهم يؤمنون بالغيب ومنه الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب - أمور الغيب تستلزم اليقين - لترتب الجزاء عليه ثوابا أو عقابا .
والثواب والعقاب هما نتيجة الفعل والترك .
والفعل والترك : هما مناط التكليف ، لأن الإنسان يمتثل الأمر رجاء الثواب ، ويكف عن متعلق النهي مخافة العقاب .
فلكأن نسق المصحف الشريف يشير إلى ضرورة ما يجب الانتباه إليه من أن القرآن بدأ بالحمد ثناء على الله بما أنعم على الإنسان بإنزاله ، وإرسال الرسول صاحبه به ، ثم نقله من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، وهو الأعظم قدرا وخطرا ، ثم رسم له الطريق الذي سلكه المهتدون أهل الإنعام والرضى ، ثم أوقفه عليه ليسلك سبيلهم .
وهكذا إلى أن جاء به بعد كمال البيان والإرشاد والهداية ، جاء به إلى نهاية هذا الصراط المستقيم ، فاستوقفه ليقول له إذا اطمأننت لهذا الدين ، وآمنت بالله رب
[ ص: 188 ] العالمين ، واعتقدت مجيء يوم الدين ، وعرفت طريق المهتدين ورأيت أقسام الناس الثلاث مؤمنين وكافرين ومنافقين ، ونهاية كل منهم ، فالزم هذا الكتاب ، وسر على هذا الصراط ورافق أهل الإنعام ، وجانب المغضوب عليهم والضالين ، واحذر من مسلك المنافقين المتشككين ، وحاذر كل الحذر من موجب ذلك كله ، وهو الوسواس الخناس ، أن يشككك في متعلقات الإيمان ، أو في استواء طريقك واستقامته أو في عصمة كتابك وكماله ، وكن على يقين مما أنت عليه ، ولا تنس خطره على أبويك من قبل ، إذ هما في الجنة دار السلام ولم يسلما منه ، ودلاهما بغرور فحاذر منه ولذ بي كلما ألم بك أو مسك طائف منه ، وكن كسلفك الصالح
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ 8 \ 201 ] .
وقد علمت عداوته لك من بعد ، وعداوته ناشئة عن الحسد .
ولكأن ارتباط السورتين ليشير إلى منشأ تلك العداوة وارتباطها بهذا التحذير ، إذ في الأولى : ومن شر حاسد إذا حسد ، فحسد الشيطان
آدم على إكرام الله إياه كما أسلفنا .
والعدو الحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ولئن كانت توبة
آدم هي سبيل نجاته ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=37فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] .
فنجاتك أيضا في كلمات تستعيذ بها من عدوك : برب الناس ملك الناس إله الناس ; لأن الرب هو الذي يرحم عباده ، وملك الناس هو الذي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم . وإله الناس الذي يتألهون إليه ويتضرعون ويلوذون به سبحانه .
تَنْبِيهٌ
ذَكَرَ
أَبُو حَيَّانَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28881_29084_29085مُقَارَنَةً لَطِيفَةً بَيْنَ سُورَتَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ ، فَقَالَ : وَلَمَّا كَانَتْ مَضَرَّةُ الدِّينِ ، وَهِيَ آفَةُ الْوَسْوَسَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَضَرَّةِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ ، جَاءَ الْبِنَاءُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ : الرَّبِّ ، وَالْمَلِكِ ، وَالْإِلَهِ ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ .
[ ص: 183 ] وَفِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ثَلَاثٍ : الْغَاسِقِ ، وَالنَّفَّاثَاتِ ، وَالْحَاسِدِ ، بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الرَّبُّ ، وَإِنْ تَكَثَّرَ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ .
وَهَذِهِ الْأُخْرَى لَفْتَةٌ كَرِيمَةٌ ، طَالَمَا كُنْتُ تَطَلَّعْتُ إِلَيْهَا فِي وُجْهَتَيْ نَظَرٍ ، إِحْدَاهُمَا : بَيْنَ السُّورَتَيْنِ ، وَالْأُخْرَى بَيْنَ سُورَةِ النَّاسِ وَنَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ ، سَيَأْتِي إِيرَادُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
إِلَّا أَنَّهُ عَلَى وُجْهَةِ نَظَرِ
أَبِي حَيَّانَ ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَلَقِ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ "
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1بِرَبِّ الْفَلَقِ " .
وَفِي سُورَةِ النَّاسِ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي الْأُولَى ثَلَاثَةُ أُمُورٍ ، وَالْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ أَمْرٌ وَاحِدٌ ، فَلِخَطَرِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ جَاءَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ .
وَيُقَالُ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إِنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي السُّورَةِ الْأُولَى أُمُورٌ تَأْتِي مِنْ خَارِجِ الْإِنْسَانِ ، وَتَأْتِيهِ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ شُرُورًا ظَاهِرَةً ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَوِ اتِّقَاؤُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، وَتَجَنُّبُهُ إِذَا عُلِمَ بِهِ . بَيْنَمَا الشَّرُّ الْوَاحِدُ فِي الثَّانِيَةِ يَأْتِيهِ مِنْ دَاخِلِيَّتِهِ وَقَدْ تَكُونُ هَوَاجِسُ النَّفْسِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ ، إِذِ الشَّيْطَانُ يَرَانَا وَلَا نَرَاهُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [ 7 \ 27 ] .
وَقَدْ يُثِيرُ عَلَيْهِ خَلَجَاتِ نَفْسِهِ وَنَوَازِعَ فِكْرِهِ ، فَلَا يَجِدُ لَهُ خَلَاصًا إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ وَاللُّجُوءِ إِلَى رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ .
أَمَّا الْوُجْهَتَانِ اللَّتَانِ نَوَّهْنَا عَنْهُمَا ، فَالْأُولَى بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَهِيَ مِمَّا أَوْرَدَهُ
أَبُو حَيَّانَ : إِذْ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [ 113 \ 1 ] ، وَرَبُّ الْفَلَقِ تُعَادِلُ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ إِلَّا وَهُوَ مَفْلُوقٌ عَنْ غَيْرِهِ .
فَفِي الزَّرْعِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [ 6 \ 95 ] .
وَفِي الزَّمَنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=96فَالِقُ الْإِصْبَاحِ [ 6 \ 96 ] .
[ ص: 184 ] وَفِي الْحَيَوَانَاتِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [ 4 \ 1 ] .
وَفِي الْجَمَادَاتِ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=31وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [ 21 \ 30 - 31 ] .
فَرَبُّ الْفَلَقِ تُعَادِلُ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، فَقَابَلَهَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِعُمُومِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=2مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ .
ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ ، وَهُوَ " مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ " ، وَ " النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ " ، " وَحَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " .
فَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ عُمُومُ مَا خَلَقَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ، بَيْنَمَا فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ جَاءَ بِالْمُسْتَعَاذِ بِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ هِيَ صِفَاتُ الْعَظَمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى : الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ .
فَقَابَلَ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَطْ ، وَهُوَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ خُطُورَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ .
وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّنَا لَوْ نَظَرْنَا فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ لَوَجَدْنَا مَبْعَثَ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمُنْطَلَقَ كُلِّ شَرٍّ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا ، لَوَجَدْنَاهُ بِسَبَبِ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِتَارِيخِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ .
وَأَوَّلُ جِنَايَةٍ وَقَعَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ هَذَا الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَرَّمَ
آدَمَ ، فَخَلَقَهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ الْمَلَائِكَةَ لَهُ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ هُوَ وَزَوْجَهُ لَا يَجُوعُ فِيهَا وَلَا يَعْرَى ، وَلَا يَظْمَأُ فِيهَا وَلَا يَضْحَى ، يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ مَا شَاءَا ، إِلَّا مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَمْنُوعَةِ ، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِمَا الشَّيْطَانُ حَتَّى أَكَلَا مِنْهَا وَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ، حَتَّى أُهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .
وَبَعْدَ سُكْنَاهُمَا الْأَرْضَ أَتَى ابْنَيْهِمَا
قَابِيلَ وَهَابِيلَ فَلَاحَقَهُمَا أَيْضًا بِالْوَسْوَسَةِ ، حَتَّى طَوَّعَتْ نَفْسُ أَحَدِهِمَا قَتْلَ أَخِيهِ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ .
وَهَكَذَا بِسَائِرِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ بِالْوَسْوَسَةِ حَتَّى يُرْبِكَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيُهْلِكَهُ فِي
[ ص: 185 ] الْآخِرَةِ ، وَلَقَدِ اتَّخَذَ مِنَ الْمَرْأَةِ جِسْرًا لِكُلِّ مَا يُرِيدُ . وَهَا هُوَ يُعِيدُ الْكَرَّةَ فِي نَزْعِ اللِّبَاسِ عَنْ أَبَوَيْنَا فِي الْجَنَّةِ ، فَيَنْتَزِعُهُ عَنْهُمَا فِي ظِلِّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فِي طَوَافِهِمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَا يَزَالُ يُغْوِيهِ ، وَعَنْ طَرِيقِ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لِيُخْرِجَهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْهِ مِنَ الْجَنَّةِ .
وَلَا يَزَالُ يَجْلِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ بَارًّا بِقَسَمِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ بِعِزَّتِهِ لَيُغْوِينَّهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَإِنَّ أَخْطَرَ أَبْوَابِ الْفَسَادِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ لَهِيَ عَنِ الْمَالِ أَوِ الدَّمِ أَوِ الْعِرْضِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009928 " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا " إِلَى آخِرِهِ .
وَهَلْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا مِنْ تَأْثِيرِ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ؟ اللَّهُمَّ لَا .
وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمَوْقِفَ جَلِيًّا فِي مَقَالَةِ الشَّيْطَانِ الْبَلِيغَةِ الصَّرِيحَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [ 14 \ 22 ] .
وَلِقَدْ عَلِمَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَخْطَرَ سِلَاحٍ عَلَى الْإِنْسَانِ هُوَ الشَّكُّ وَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَسْوَسَةِ ، فَأَخَذَ عَنْ إِبْلِيسَ مُهِمَّتَهُ وَرَاحَ يُوَسْوِسُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَفِي دُنْيَاهُمْ ، وَيُشَكِّكُهُمْ فِي قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ مُسْتَقِلِّينَ عَنْهُ ، وَيُشَكِّكُهُمْ فِي قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالِاسْتِقْلَالِ الْحَقِيقِيِّ ، بَلْ وَفِي اسْتِطَاعَتِهِمْ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَالِاخْتِرَاعِ ، لِيَظَلُّوا فِي فَلَكِهِ وَدَائِرَةِ نُفُوذِهِ ، فَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ يَدُورُونَ فِي حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ ، يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى .
وَالْمُتَشَكِّكُ فِي نَتِيجَةِ عَمَلٍ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَبَدًا ، بَلْ مَا يَبْنِيهِ الْيَوْمَ يَهْدِمُهُ غَدًا ، وَقَدْ أَعْلَنَ عَنْ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْخَطِيرَةِ رَئِيسُ مُؤْتَمَرِ الْمُسْتَشْرِقِينَ فِي الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ ، مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ عَامًا ، حِينَمَا انْعَقَدَ الْمُؤْتَمَرُ فِي (
بَيْرُوتَ ) لِعَرْضِ نَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ وَدِرَاسَةِ أَسَالِيبِ تَبْشِيرِهِمْ .
[ ص: 186 ] فَتَشَكَّى الْمُؤْتَمِرُونَ مِنْ أَنَّ لَهُمْ زُهَاءَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عَمَلِهِمُ الْمُتَوَاصِلِ ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُنَصِّرُوا مُسْلِمًا وَاحِدًا ، فَقَالَ رَئِيسُ الْمُؤْتَمَرِ : إِذَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُنَصِّرَ مُسْلِمًا ، وَلَكِنِ اسْتَطَعْنَا أَنْ نُوجِدَ ذَبْذَبَةً فِي الرَّأْيِ ، فَقَدْ نَجَحْنَا فِي عَمَلِنَا .
وَهَكَذَا مَنْهَجُ الْعَدُوِّ ، تَشْكِيكٌ فِي قَضَايَا الْإِسْلَامِ لِيُوجِدَ ذَبْذَبَةً فِي عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَنْ طَرِيقِ الْمِيرَاثِ تَارَةً ، وَعَنْ طَرِيقِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أُخْرَى ، وَعَنْ دَوَافِعِ الْقِتَالِ ، وَعَنِ اسْتِرْقَاقِ الرَّقِيقِ ، وَعَنْ وَعَنْ .
حَتَّى وُجِدَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَخَطَّى حُدُودَ الشَّكِّ إِلَى التَّصْدِيقِ ، وَأَخَذَ يَدْعُو إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْعَدُوُّ ، وَمَا ذَاكَ كُلُّهُ إِلَّا حَصَادُ وَنَتَائِجُ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ .
فَلَا غَرْوَ إِذًا أَنْ تُجْمَعَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ الثَّلَاثُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1بِرَبِّ النَّاسِ 30
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=2مَلِكِ النَّاسِ 30
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=3إِلَهِ النَّاسِ .
هَذِهِ وُجْهَةُ النَّظَرِ الْأُولَى بَيْنَ سُورَتَيِ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ .
أَمَّا الْوُجْهَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَيْنَ سُورَةِ النَّاسِ وَنَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=3الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=4مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [ 1 \ 2 - 7 ] .
وَفِي هَذِهِ الْبِدَايَةِ الْكَرِيمَةِ بَثُّ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَلْبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَمْدِ ، عُنْوَانِ الرِّضَى وَالسَّعَادَةِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِمُلْكِ يَوْمِ الدِّينِ ، ثُمَّ الِالْتِزَامُ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ ، مُسْتَهْدِيًا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، سَائِلًا صُحْبَةَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ 2 \ 2 ] أَيْ : إِنَّ الْهُدَى الَّذِي تَنْشُدُهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، فَهُوَ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ ، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [ 2 \ 3 - 4 ] .
وَمَرَّةً أُخْرَى لِلتَّأْكِيدِ : أُولَئِكَ لَا سِوَاهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ 2 \ 5 ] .
[ ص: 187 ] ثُمَّ تَتَرَسَّلُ السُّورَةُ فِي تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : مُؤْمِنِينَ ، وَكَافِرِينَ ، وَمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ بَيْنَ ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ .
ثُمَّ يَأْتِي النِّدَاءُ الصَّرِيحُ وَهُوَ أَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ لِعُمُومِ النَّاسِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [ 2 \ 21 ] ، وَيُقِيمُ الْبَرَاهِينَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ 2 \ 21 - 22 ] .
وَبَعْدَ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ وَهِيَ الْعَقِيدَةُ ، تَمْضِي السُّورَةُ فِي ذِكْرِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ ، فَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْجِهَادِ ، وَقَلَّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ إِلَّا وَلَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَيَأْتِي مَا بَعْدَهَا مُبَيِّنًا لِمَا أُجْمِلَ فِيهَا أَوْ لِمَا يُذْكَرُ ضِمْنَهَا .
وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ الْقُرْآنُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ الدِّينِ .
وَلِمَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الْمُهْتَدِينَ فِي أَوَّلِ الْمُصْحَفِ ، أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَمِنْهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَعِقَابٍ وَثَوَابٍ - أُمُورُ الْغَيْبِ تَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ - لِتُرَتِّبَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا .
وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ هُمَا نَتِيجَةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ .
وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ : هُمَا مَنَاطُ التَّكْلِيفِ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ رَجَاءَ الثَّوَابِ ، وَيَكُفُّ عَنْ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ مَخَافَةَ الْعِقَابِ .
فَلَكَأَنَّ نَسَقَ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ يُشِيرُ إِلَى ضَرُورَةِ مَا يَجِبُ الِانْتِبَاهُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَدَأَ بِالْحَمْدِ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِإِنْزَالِهِ ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ صَاحِبِهِ بِهِ ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ الْأَعْظَمُ قَدْرًا وَخَطَرًا ، ثُمَّ رَسَمَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّذِي سَلَكَهُ الْمُهْتَدُونَ أُهْلُ الْإِنْعَامِ وَالرِّضَى ، ثُمَّ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلُكَ سَبِيلَهُمْ .
وَهَكَذَا إِلَى أَنْ جَاءَ بِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ ، جَاءَ بِهِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، فَاسْتَوْقَفَهُ لِيَقُولَ لَهُ إِذَا اطْمَأْنَنْتَ لِهَذَا الدِّينِ ، وَآمَنْتَ بِاللَّهِ رَبِّ
[ ص: 188 ] الْعَالَمِينَ ، وَاعْتَقَدْتَ مَجِيءَ يَوْمِ الدِّينِ ، وَعَرَفْتَ طَرِيقَ الْمُهْتَدِينَ وَرَأَيْتَ أَقْسَامَ النَّاسِ الثَّلَاثِ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ وَمُنَافِقِينَ ، وَنِهَايَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ ، فَالْزَمْ هَذَا الْكِتَابَ ، وَسِرْ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ وَرَافِقْ أَهْلَ الْإِنْعَامِ ، وَجَانِبِ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ ، وَاحْذَرْ مِنْ مَسْلَكِ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَشَكِّكِينَ ، وَحَاذِرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ مُوجِبِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَهُوَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ ، أَنْ يُشَكِّكَكَ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْإِيمَانِ ، أَوْ فِي اسْتِوَاءِ طَرِيقِكَ وَاسْتِقَامَتِهِ أَوْ فِي عِصْمَةِ كِتَابِكَ وَكَمَالِهِ ، وَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ ، وَلَا تَنْسَ خَطَرَهُ عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ ، إِذْ هُمَا فِي الْجَنَّةِ دَارِ السَّلَامِ وَلَمْ يَسْلَمَا مِنْهُ ، وَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَحَاذِرْ مِنْهُ وَلُذْ بِي كُلَّمَا أَلَمَّ بِكَ أَوْ مَسَّكَ طَائِفٌ مِنْهُ ، وَكُنْ كَسَلَفِكَ الصَّالِحِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ 8 \ 201 ] .
وَقَدْ عَلِمْتَ عَدَاوَتَهُ لَكَ مِنْ بَعْدُ ، وَعَدَاوَتُهُ نَاشِئَةٌ عَنِ الْحَسَدِ .
وَلَكَأَنَّ ارْتِبَاطَ السُّورَتَيْنِ لَيُشِيرَ إِلَى مَنْشَأِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَارْتِبَاطِهَا بِهَذَا التَّحْذِيرِ ، إِذْ فِي الْأُولَى : وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ، فَحَسَدَ الشَّيْطَانُ
آدَمَ عَلَى إِكْرَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَمَا أَسْلَفْنَا .
وَالْعَدُوُّ الْحَاسِدُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ ، وَلَئِنْ كَانَتْ تَوْبَةُ
آدَمَ هِيَ سَبِيلُ نَجَاتِهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=37فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [ 2 \ 37 ] .
فَنَجَاتُكَ أَيْضًا فِي كَلِمَاتٍ تَسْتَعِيذُ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ : بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ ; لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ عِبَادَهُ ، وَمَلِكَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَحْمِيهِمْ وَيَحْفَظُهُمْ وَيَحْرُسُهُمْ . وَإِلَهَ النَّاسِ الَّذِي يَتَأَلَّهُونَ إِلَيْهِ وَيَتَضَرَّعُونَ وَيَلُوذُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ .