[ ص: 450 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
nindex.php?page=treesubj&link=29062_19891_32531قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=8فألهمها فجورها وتقواها .
يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب ، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=17فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16اشتروا الضلالة بالهدى [ 2 \ 16 ] ، ونحو ذلك ، وهذه المسألة هي التي ضل فيها
القدرية والجبرية .
أما
القدرية فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه .
وأما
الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به .
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا ، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الاتعاشية ليست كالحركة الاختيارية ، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته ، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى .
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى ؛ مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب .
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري : حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل ، وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي ، فأنا مجبور ، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه ؟ فإن السني يقول له : كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك ، جعل لك سمعا تسمع به ، وبصرا تبصر به ، وعقلا تعقل به ،
[ ص: 451 ] وأرسل لك رسولا ، وجعل لك اختيارا وقدرة ، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض ، إن أعطاه ففضل ، وإن منعه فعدل .
كما أشار له تعالى بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] ، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق ، فمن أعطيه ففضل ، ومن منعه فعدل .
ولما تناظر
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الاسفرائيني مع
nindex.php?page=showalam&ids=14959عبد الجبار المعتزلي ، قال
عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله ، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم .
فقال
أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ، ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء .
فقال
عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه ؟
فقال
أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ؟ أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال
عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء ؟
فقال
أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء ، وإن كان له فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت
عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .
وجاء أعرابي إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد وقال له : ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني ، فقال : اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه ، فقال له الأعرابي : يا هذا كف عني دعائك الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد .
وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] ، فأثبت للعبد مشيئة ، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا ، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .
[ ص: 452 ] وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=8فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر ، فلا إشكال في الآية : وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 450 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الشَّمْسِ
nindex.php?page=treesubj&link=29062_19891_32531قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=8فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى فِي الْقَلْبِ ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فُجُورَ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=17فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [ 41 \ 17 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [ 2 \ 16 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا
الْقَدَرِيَّةُ وَالْجَبْرِيَّةُ .
أَمَّا
الْقَدَرِيَّةُ فَضَّلُوا بِالتَّفْرِيطِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ عَمَلَ نَفْسِهِ اسْتِقْلَالًا مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ لِقُدْرَةِ اللَّهِ فِيهِ .
وَأَمَّا
الْجَبْرِيَّةُ فَضَّلُوا بِالْإِفْرَاطِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ لَا عَمَلَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ .
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَمْ يُفْرِطُوا وَلَمْ يُفَرِّطُوا ، فَأَثْبَتُوا لِلْعَبْدِ أَفْعَالًا اخْتِيَارِيَّةً ، وَمِنَ الضَّرُورِيِّ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْحَرَكَةَ الِاتِّعَاشِيَّةَ لَيْسَتْ كَالْحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ، وَأَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ خَالِقُ الْعَبْدِ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ ، وَتَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَالْعَبْدُ وَجَمِيعُ أَفْعَالِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُ اخْتِيَارًا بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ اللَّتَيْنِ خَلَقَهُمَا اللَّهُ فِيهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا يُثَابُ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبُ .
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ جَبْرِيًّا نَاظَرَ سُنِّيًّا فَقَالَ الْجَبْرِيُّ : حُجَّتِي لِرَبِّي أَنْ أَقُولَ إِنِّي لَسْتُ مُسْتَقِلًّا بِعَمَلٍ ، وَإِنِّي لَا بُدَّ أَنْ تَنْفُذَ فِيَّ مَشِيئَتُهُ وَإِرَادَتُهُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ ، فَأَنَا مَجْبُورٌ ، فَكَيْفَ يُعَاقِبُنِي عَلَى أَمْرٍ لَا قُدْرَةَ لِي أَنْ أَحِيدَ عَنْهُ ؟ فَإِنَّ السُّنِّيَّ يَقُولُ لَهُ : كُلُّ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلْمُهْتَدِينَ أَعْطَاهَا لَكَ ، جَعَلَ لَكَ سَمْعًا تَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرًا تُبْصِرُ بِهِ ، وَعَقْلًا تَعْقِلُ بِهِ ،
[ ص: 451 ] وَأَرْسَلَ لَكَ رَسُولًا ، وَجَعَلَ لَكَ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا التَّوْفِيقُ وَهُوَ مِلْكُهُ الْمَحْضُ ، إِنْ أُعْطَاهُ فَفَضْلٌ ، وَإِنْ مَنَعَهُ فَعَدْلٌ .
كَمَا أَشَارَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [ 6 \ 149 ] ، يَعْنِي أَنَّ مِلْكَهُ لِلتَّوْفِيقِ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ عَلَى الْخَلْقِ ، فَمَنْ أُعْطِيَهُ فَفَضْلٌ ، وَمَنْ مُنِعَهُ فَعَدْلٌ .
وَلَمَّا تَنَاظَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَائِينِيُّ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=14959عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ ، قَالَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ : سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ ، وَقَصْدُهُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَى بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَشَاءَ الْقَبَائِحَ فِي زَعْمِهِمْ .
فَقَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ .
فَقَالَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ : أَتَرَاهُ يَخْلُقُهُ وَيُعَاقِبُنِي عَلَيْهِ ؟
فَقَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ : أَتَرَاكَ تَفْعَلُهُ جَبْرًا عَلَيْهِ ؟ أَأَنْتَ الرَّبُّ وَهُوَ الْعَبْدُ ؟
فَقَالَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ : أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَانِي إِلَى الْهُدَى وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى أَتَرَاهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ ؟
فَقَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ : إِنْ كَانَ الَّذِي مَنَعَكَ مِنْهُ مِلْكًا لَكَ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فَإِنْ أَعْطَاكَ فَفَضْلٌ ، وَإِنْ مَنَعَكَ فَعَدْلٌ . فَبُهِتَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ ، وَقَالَ الْحَاضِرُونَ : وَاللَّهِ مَا لِهَذَا جَوَابٌ .
وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=16711عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَقَالَ لَهُ : ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ حِمَارَةً سُرِقَتْ مِنِّي ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّ حِمَارَتَهُ سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا فَارْدُدْهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ : يَا هَذَا كُفَّ عَنِّي دُعَائَكَ الْخَبِيثَ ، إِنْ كَانَتْ سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ إِشْكَالَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=30وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ 76 ] ، فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مَشِيئَةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، فَكُلُّ شَيْءٍ صَادِرٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ .
[ ص: 452 ] وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِأَنَّ مَعْنَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=8فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهَا طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ ، فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ : وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .