[ ص: 3 ] الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94nindex.php?page=treesubj&link=28980يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) .
هذه الآيات بيان لما سيكون من
nindex.php?page=treesubj&link=30881أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بعد دعوتهم إليهم ، قال عز وجل :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94يعتذرون إليكم ) : يعتذر إليكم أيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94إذا رجعتم إليهم ) من سفركم هذا عن جميع سيئاتهم ( قل ) أيها الرسول لهم حينئذ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94لا تعتذروا لن نؤمن لكم ) لن نصدقكم تصديق جنوح وائتمان لكم بتلبسكم بالإسلام تحسينا للظن ، ولا عملا بالظواهر ، ولماذا ؟ ( قد نبأنا الله ) بوحيه إلى رسوله
[ ص: 4 ] المهم ( من أخباركم ) التي تسرونها في ضمائركم ، وهي مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها ، ونبأ الله هو الحق اليقين ، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل ، ولا يصدق الكاذب ، ولم يقل ( ( نبأني ) ) وهو - صلى الله عليه وسلم - المنبأ من الله وحده ; لأن المراد أنه أمره أن ينبئ بذلك أصحابه ولم يكن هذا النبأ خاصا به ، واعتذارهم للجميع يقتضي أن يعلموا أن الجميع عالمون بما فضحهم الله به ، وإن كان المبلغ لهم هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما له من الرياسة ، وما لخبره من الثقة التي لا يشك فيها أحد ، والتأثير الذي يحسب له كل حساب . فهو من قبيل التبليغات الرسمية العليا الصادرة عن الملوك والسلاطين ، دع كونه أسمى وأعلى لأنه نبأ الرسول المعصوم عن الله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94وسيرى الله عملكم ورسوله ) بعد الآن . وهو الذي يدل : إما على الإصرار على النفاق ، وإما على التوبة والإذعان في الإيمان ، الذي تترتب عليه الأعمال . وأما أقوالكم فلا قيمة لها وإن أكدتموها بالأيمان ، فإن تبتم وأنبتم ، وشهد لكم عملكم بصلاح سريرتكم ، فإن الله يقبل توبتكم ، ويعاملكم رسوله بما يعامل به المؤمنين الذين تشهد لهم أعمالهم بإخلاصهم وصدقهم ، وإن أبيتم إلا الإصرار على نفاقكم والاعتماد على نفاق سوق كذبكم بأعذاركم وأيمانكم ، فسيعاملكم رسوله بما أمره الله به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين ، وعدم السماح لكم بالخروج معه أبدا ولا بأن تقاتلوا معه عدوا وما يتعلق بذلك من إهانة واحتقار (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94ثم تردون ) من هذه الحياة على الذل والموت عليه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94إلى عالم الغيب والشهادة ) الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون ، وما تكتمون وما تظهرون .
والغيب : ما غاب عن المخاطبين علمه ، والشهادة : ما يشهدونه ويعرفونه ( 1 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94فينبئكم بما كنتم تعملون ) عندما تحشرون وتحاسبون ، ويجازيكم عليه بما تستحقون ، وهو ما أوعدكم به في هذه السورة وفي غيرها كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) ( 4 : 145 ) .
ومن الفقه في الآية أن
nindex.php?page=treesubj&link=19937_19941_19942من آداب الإسلام تحامي كل ذنب أو تقصير يحتاج فاعله إلى الاعتذار ، وورد في بعض الأحاديث المرفوعة ( (
إياك وكل أمر يعتذر منه ) ) رواه الضياء في الأحاديث المختارة عن
أنس ، وروى غيره مثله في أثناء حديث آخر .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) سيؤكدون لكم اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا انقلبتم وتحولتم إليهم من سفركم لأجل أن تعرضوا عن عتبهم وتوبيخهم على قعودهم مع الخالفين من النساء والأطفال والعجزة ، وبخلهم بالنفقة ، ولم يذكر المحلوف عليه للدلالة على شموله لكل ما يعتذر عنه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95فأعرضوا عنهم ) إعراض إهانة واحتقار ، لا إعراض
[ ص: 5 ] صفح وإعذار ، وهذا التعبير من أسلوب الحكيم ، وهو قبول ما يبغون من الإعراض عنهم ولكن على غير الوجه الذي يرجونه منه بل على ضده ، وقد علل الأمر بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95إنهم رجس ) أي قذر معنوي يجب الإعراض عنه تنزها عن القرب منه بأشد مما يتنزه الطاهر الثوب والبدن عن ملابسة الأرجاس والأقذار الحسية . وهذا بمعنى ما تقدم من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إنما المشركون نجس ) ( 28 ) وسبق بيان معنى الرجس في تفسير آية (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=90إنما الخمر والميسر ) ( 5 : 90 ) من سورة المائدة (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء بما كانوا يكسبون في الدنيا من أعمال النفاق التي دنست أنفسهم ، والإعراض عن آيات الله الذي زادهم رجسا على رجسهم ، كما تراه في الآية ( 125 ) الآتية .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96يحلفون لكم لترضوا عنهم ) فتستديموا معاملتهم السابقة بظاهر إسلامهم وهذا غرض آخر وراء غرض الإعراض عنهم لا يهنأ عيشهم بدونه ، ولا حظ لهم من إظهار الإسلام غيره ولو كان إسلامهم عن إيمان لكان غرضهم الأول إرضاء الله ورسوله كما تقدم في آية (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=62يحلفون بالله لكم ليرضوكم ) ( 62 ) إلخ . وليس لكم أن ترضوا عنهم وهذه حالتهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96فإن ترضوا عنهم ) فرضا وقد أعلمكم الله بحالهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) عن أمره منهم ولا من غيرهم ، فإن هذا الفسوق سبب أو علة لسخط الله تعالى ، فالحكم بعدم رضاه متعلق به لا بذواتهم وشخوصهم ، ومقتضاه أنه إذا فرض أن بعض المؤمنين رضي عنهم وآمن لهم باعتذارهم بعد النهي عنه كان فاسقا مثلهم ، محروما من رضائه تعالى ، كما أن من يتوب منهم ويرضي الله ورسوله يخرج من حدود سخطه عز وجل ويدخل في حظيرة مرضاته ; إذ لا يعد بعد ذلك فاسقا . فأحكام الله العامة ووعده ووعيده تتعلق بالأعمال والصفات النفسية والبدنية لا بالذوات والأعيان ، ولو قال : ( ( فإن الله لا يرضى عنهم ) ) لما أفاد التعبير هذه الحقائق والمعاني ، بل كان يكون حكما على أفراد معينين ، مسجلا عليهم الموت على كفرهم وعدم قبول توبة أحد منهم وما أبعد هذا عن حكمة الله وعن هداية كتابه العزيز ؟
ولا ينافي هذا التحقيق ما يروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من نزول هذه الآيات في
الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين ، وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين لما رجعوا إلى
المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم ; إذ لا دليل على أن هؤلاء مقصودون من الآيات بذواتهم وشخوصهم كالذين نهي عن الاستغفار لهم وعلله بموتهم على كفرهم ،
كعبد الله بن أبي ، وقد قال
قتادة : إن هذه الآيات نزلت فيه ، فإنه حلف للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عودته بألا يتخلف عنه ، وطلب أن يرضى عنه فلم يفعل . والآيات أعم من هذا وذاك . وهي من أنباء الغيب بما فيها من بيان مقاصدهم الخفية ، وإن كان الاعتذار والحلف من سجاياهم
[ ص: 6 ] المعروفة ، وإن
nindex.php?page=treesubj&link=30563من علامات النفاق كثرة الحلف ; لشعور المنافق دائما بأنه متهم بالكذب .
ويجب التنبه في هذا المقام لجهل فظيع - وقفنا عليه بمذاكرة بعض المشتغلين بعلوم الدين التقليدية - مخالف لهذه الآية وأمثالها من كتاب الله تعالى ، وهو زعمهم أن ما عابه الكتاب الحكيم على المشركين والكافرين من أعمال الشرك والكفر كدعاء غير الله واتخاذ أولياء من دونه يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده فيما يطلبون من دفع ضر وجلب نفع مما لا ينال بالكسب ، فهو خاص بهم وبأوليائهم وشفعائهم وأن وقوع مثله من المسلمين لا ينافي صحة إيمانهم ، والاعتداد بإسلامهم ; للفرق الواضح بين من يدعو الأصنام والأوثان ويجعلها واسطة بينه وبين الله تعالى تشفع له عنده وتقربه إليه زلفى ، ومن يدعو الأنبياء والأولياء لذلك وهم عباد الله المكرمون ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؟ ؟
جهل هؤلاء أن
nindex.php?page=treesubj&link=28674_28676الشرك والكفر لا يختلف حكمه باختلاف متعلقه فمن يدعو مع الله صنما أو كوكبا ، كمن يدعو نبيا أو ملكا ، على أن الأوثان والأصنام كانت تماثيل لذكرى بعض الأولياء والصالحين كالقبور المنسوبة إلى بعضهم نسبة صحيحة أو مزورة ، ولكن ماذا يقول هؤلاء الجاهلون المدافعون عن الشرك وأهله في أهل الكتاب الذين يدعون ويستغيثون الأنبياء والصالحين ، متوسلين بهم ومستشفعين ، وهم الذين اتبع القبوريون من المسلمين سننهم في شركهم كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بذلك تحذيرا وإنذارا بقوله ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920399لتتبعن سنن من قبلكم ) ) الحديث وهو متفق عليه وتقدم ذكره مرارا ، وفصلت هذه المسألة في تفسير الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) ( 31 ) فيراجع تفسيرها .
ويذكر هؤلاء الجاهلون بالقرآن وتاريخ الإسلام فرقا آخر بين شرك المسلمين وشرك من قبلهم ، وهو أن المشركين السابقين اتخذوا أوثانهم وأنبياءهم وأولياءهم آلهة وأربابا ، وأن المسلمين الذين يدعون الأولياء ويستغيثونهم في الشدائد طلبا لشفاعتهم لم يتخذوهم آلهة ولا أربابا وإنما يتخذونهم وسائل ووسائط ويعتقدون أنهم مخلوقون مثلهم .
والجواب عن هذا : أنه لا فرق بين عمل الفريقين إلا في التسمية ولكن من بعض الوجوه فمشركو العرب لم يكونوا يسمون أصنامهم أربابا ، بل كانوا يعتقدون ويقولون : إن رب العالمين وخالقهم ومدبر أمورهم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله وحده ; لأن هذا مقتضى لغتهم ; وإنما كانوا يسمونها آلهة لأن الإله في لغتهم هو المعبود ، والمعبود هو من يتوجه إليه ويدعى فيما لا يقدر عليه الناس بكسبهم في دائرة الأسباب المعروفة لهم ، ويعظم ويتقرب إليه بالذبائح وغيرها لأجل ذلك ، سواء كان سلطانه على النفع ودفع الضر بذاته لذاته وهو الله تعالى أو بشفاعته عند الله ، وقد تقدم بسط هذا المعنى مرارا . وسيعاد في تفسير سورة يونس
[ ص: 7 ] للنصوص الصريحة فيه ، فتسمية هذه العبادة لغير الله توسلا في عرف بعض الناس لا يخرجها عن حقيقتها ، ولا عن كون اسمها في اللغة العربية عبادة وهو ما كان يسميها به أهل هذه اللغة . وإنما التوسل الشرعي التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال الصالحة ، لا بالأهواء المبتدعة ، ولا بالتقاليد المتبعة .
[ ص: 3 ] الْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشَرَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94nindex.php?page=treesubj&link=28980يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) .
هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِمَا سَيَكُونُ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30881أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِمْ ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ) : يَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ أَصِحَّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ) مِنْ سَفَرِكُمْ هَذَا عَنْ جَمِيعِ سَيِّئَاتِهِمْ ( قُلْ ) أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ حِينَئِذٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) لَنْ نُصَدِّقَكُمْ تَصْدِيقَ جُنُوحٍ وَائْتِمَانٍ لَكُمْ بِتَلَبُّسِكُمْ بِالْإِسْلَامِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ ، وَلَا عَمَلًا بِالظَّوَاهِرِ ، وَلِمَاذَا ؟ ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ ) بِوَحْيِهِ إِلَى رَسُولِهِ
[ ص: 4 ] الْمُهِمَّ ( مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) الَّتِي تُسِرُّونَهَا فِي ضَمَائِرِكُمْ ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِظَوَاهِرِكُمُ الَّتِي تَعْتَذِرُونَ بِهَا ، وَنَبَأُ اللَّهِ هُوَ الْحَقُّ الْيَقِينُ ، وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَقْبَلُ الْبَاطِلَ ، وَلَا يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ ، وَلَمْ يَقُلْ ( ( نَبَّأَنِي ) ) وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُنَبَّأُ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُنْبِئَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا النَّبَأُ خَاصًّا بِهِ ، وَاعْتِذَارُهُمْ لِلْجَمِيعِ يَقْتَضِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمِيعَ عَالِمُونَ بِمَا فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَهُمْ هُوَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَهُ مِنَ الرِّيَاسَةِ ، وَمَا لِخَبَرِهِ مِنَ الثِّقَةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا أَحَدٌ ، وَالتَّأْثِيرِ الَّذِي يُحْسَبُ لَهُ كُلُّ حِسَابٍ . فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّبْلِيغَاتِ الرَّسْمِيَّةِ الْعُلْيَا الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ ، دَعْ كَوْنَهُ أَسْمَى وَأَعْلَى لِأَنَّهُ نَبَأُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) بَعْدَ الْآنَ . وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ : إِمَّا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ ، وَإِمَّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِذْعَانِ فِي الْإِيمَانِ ، الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ . وَأَمَّا أَقْوَالُكُمْ فَلَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنْ أَكَّدْتُمُوهَا بِالْأَيْمَانِ ، فَإِنْ تُبْتُمْ وَأَنَبْتُمْ ، وَشَهِدَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ بِصَلَاحِ سَرِيرَتِكُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَكُمْ ، وَيُعَامِلُكُمْ رَسُولُهُ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَشْهَدُ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَصِدْقِهِمْ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْإِصْرَارَ عَلَى نِفَاقِكُمْ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى نِفَاقِ سُوقِ كَذِبِكُمْ بِأَعْذَارِكُمْ وَأَيْمَانِكُمْ ، فَسَيُعَامِلُكُمْ رَسُولُهُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جِهَادِكُمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْكُمْ كَإِخْوَانِكُمُ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ ، وَعَدَمِ السَّمَاحِ لَكُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ أَبَدًا وَلَا بِأَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُ عَدُوًّا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ إِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94ثُمَّ تُرَدُّونَ ) مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى الذُّلِّ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) الَّذِي يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ، وَمَا تَكْتُمُونَ وَمَا تُظْهِرُونَ .
وَالْغَيْبُ : مَا غَابَ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ عِلْمُهُ ، وَالشَّهَادَةُ : مَا يَشْهَدُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ ( 1 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=94فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) عِنْدَمَا تُحْشَرُونَ وَتُحَاسَبُونَ ، وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ ، وَهُوَ مَا أَوْعَدَكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( 4 : 145 ) .
وَمِنَ الْفِقْهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19937_19941_19942مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ تَحَامِيَ كُلِّ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يَحْتَاجُ فَاعِلُهُ إِلَى الِاعْتِذَارِ ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ( (
إِيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ ) ) رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ عَنْ
أَنَسٍ ، وَرَوَى غَيْرُهُ مِثْلَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ آخَرَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ) سَيُؤَكِّدُونَ لَكُمُ اعْتِذَارَهُمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ إِذَا انْقَلَبْتُمْ وَتَحَوَّلْتُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ سَفَرِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تُعْرِضُوا عَنْ عَتْبِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى قُعُودِهِمْ مَعَ الْخَالِفِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَالْعَجَزَةِ ، وَبُخْلِهِمْ بِالنَّفَقَةِ ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِهِ لِكُلِّ مَا يُعْتَذَرُ عَنْهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ) إِعْرَاضَ إِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ ، لَا إِعْرَاضَ
[ ص: 5 ] صَفْحٍ وَإِعْذَارٍ ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَبْغُونَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَرْجُونَهُ مِنْهُ بَلْ عَلَى ضِدِّهِ ، وَقَدْ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95إِنَّهُمْ رِجْسٌ ) أَيْ قَذَرٌ مَعْنَوِيٌّ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ تَنَزُّهًا عَنِ الْقُرْبِ مِنْهُ بِأَشَدَّ مِمَّا يَتَنَزَّهُ الطَّاهِرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَنْ مُلَابَسَةِ الْأَرْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ . وَهَذَا بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ( 28 ) وَسَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الرِّجْسِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=90إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) ( 5 : 90 ) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أَيْ وَمَلْجَؤُهُمُ الْأَخِيرُ نَارُ جَهَنَّمَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِ النِّفَاقِ الَّتِي دَنَّسَتْ أَنْفُسَهُمْ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّذِي زَادَهُمْ رِجْسًا عَلَى رِجْسِهِمْ ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ ( 125 ) الْآتِيَةِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ) فَتَسْتَدِيمُوا مُعَامَلَتَهُمُ السَّابِقَةَ بِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ وَهَذَا غَرَضٌ آخَرُ وَرَاءَ غَرَضِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لَا يَهْنَأُ عَيْشُهُمْ بِدُونِهِ ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَهُ وَلَوْ كَانَ إِسْلَامُهُمْ عَنْ إِيمَانٍ لَكَانَ غَرَضُهُمُ الْأَوَّلُ إِرْضَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=62يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ) ( 62 ) إِلَخْ . وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَتُهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ ) فَرْضًا وَقَدْ أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ بِحَالِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=96فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) عَنْ أَمْرِهِ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ هَذَا الْفُسُوقَ سَبَبٌ أَوْ عِلَّةٌ لِسُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ رِضَاهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بِذَوَاتِهِمْ وَشُخُوصِهِمْ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ وَآمَنَ لَهُمْ بِاعْتِذَارِهِمْ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ كَانَ فَاسِقًا مِثْلَهُمْ ، مَحْرُومًا مِنْ رِضَائِهِ تَعَالَى ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ وَيُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَخْرُجُ مِنْ حُدُودِ سُخْطِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدْخُلُ فِي حَظِيرَةِ مَرْضَاتِهِ ; إِذْ لَا يُعَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَاسِقًا . فَأَحْكَامُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ لَا بِالذَّوَاتِ وَالْأَعْيَانِ ، وَلَوْ قَالَ : ( ( فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ ) ) لَمَا أَفَادَ التَّعْبِيرُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ وَالْمَعَانِيَ ، بَلْ كَانَ يَكُونُ حُكْمًا عَلَى أَفْرَادٍ مُعَيَّنِينَ ، مُسَجِّلًا عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَمَا أَبْعَدَ هَذَا عَنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَعَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ؟
وَلَا يُنَافِي هَذَا التَّحْقِيقُ مَا يُرْوَى عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي
الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابِهِمَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ ، وَكَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى
الْمَدِينَةِ بِأَلَّا يُجَالِسُوهُمْ وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مَقْصُودُونَ مِنَ الْآيَاتِ بِذَوَاتِهِمْ وَشُخُوصِهِمْ كَالَّذِينِ نُهِيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَلَّلَهُ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ،
كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ، وَقَدْ قَالَ
قَتَادَةُ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِ ، فَإِنَّهُ حَلَفَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ عَوْدَتِهِ بِأَلَّا يَتَخَلَّفَ عَنْهُ ، وَطَلَبَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْ . وَالْآيَاتُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ . وَهِيَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ بِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَقَاصِدِهِمُ الْخَفِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِذَارُ وَالْحَلِفُ مِنْ سَجَايَاهُمْ
[ ص: 6 ] الْمَعْرُوفَةِ ، وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30563مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ كَثْرَةَ الْحَلِفِ ; لِشُعُورِ الْمُنَافِقِ دَائِمًا بِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ .
وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِجَهْلٍ فَظِيعٍ - وَقَفْنَا عَلَيْهِ بِمُذَاكَرَةِ بَعْضِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعُلُومِ الدِّينِ التَّقْلِيدِيَّةِ - مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا عَابَهُ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ وَاتِّخَاذِ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ فِيمَا يَطْلُبُونَ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِمَّا لَا يُنَالُ بِالْكَسْبِ ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ وَبِأَوْلِيَائِهِمْ وَشُفَعَائِهِمْ وَأَنَّ وُقُوعَ مِثْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ ، وَالِاعْتِدَادَ بِإِسْلَامِهِمْ ; لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ مَنْ يَدْعُو الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ وَيَجْعَلُهَا وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى تَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ وَتُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى ، وَمَنْ يَدْعُو الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لِذَلِكَ وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُكْرَمُونَ ، الَّذِينَ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ؟ ؟
جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28674_28676الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ فَمَنْ يَدْعُو مَعَ اللَّهِ صَنَمًا أَوْ كَوْكَبًا ، كَمَنْ يَدْعُو نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا ، عَلَى أَنَّ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ كَانَتْ تَمَاثِيلَ لِذِكْرَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَالْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ نِسْبَةً صَحِيحَةً أَوْ مُزَوَّرَةً ، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمُدَافِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ ، مُتَوَسِّلِينَ بِهِمْ وَمُسْتَشْفِعِينَ ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعَ الْقُبُورِيُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُنَنَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا بِقَوْلِهِ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920399لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ) ) الْحَدِيثَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِرَارًا ، وَفُصِّلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ) ( 31 ) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا .
وَيَذْكُرُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ بِالْقُرْآنِ وَتَارِيخِ الْإِسْلَامِ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ شِرْكِ الْمُسْلِمِينَ وَشِرْكِ مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ السَّابِقِينَ اتَّخَذُوا أَوْثَانَهُمْ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ آلِهَةً وَأَرْبَابًا ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَوْلِيَاءَ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ طَلَبًا لِشَفَاعَتِهِمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ آلِهَةً وَلَا أَرْبَابًا وَإِنَّمَا يَتَّخِذُونَهُمْ وَسَائِلَ وَوَسَائِطَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِثْلَهُمْ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ أَرْبَابًا ، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيَقُولُونَ : إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقَهُمْ وَمُدَبِّرَ أُمُورِهِمُ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى لُغَتِهِمْ ; وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَهَا آلِهَةً لِأَنَّ الْإِلَهَ فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الْمَعْبُودُ ، وَالْمَعْبُودُ هُوَ مَنْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ النَّاسُ بِكَسْبِهِمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ ، وَيُعَظَّمُ وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا . وَسَيُعَادُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ
[ ص: 7 ] لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِيهِ ، فَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَوَسُّلًا فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا ، وَلَا عَنْ كَوْنِ اسْمِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِبَادَةً وَهُوَ مَا كَانَ يُسَمِّيهَا بِهِ أَهْلُ هَذِهِ اللُّغَةِ . وَإِنَّمَا التَّوَسُّلُ الشَّرْعِيُّ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، لَا بِالْأَهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ ، وَلَا بِالتَّقَالِيدِ الْمُتَّبَعَةِ .