(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=97nindex.php?page=treesubj&link=28980_30881الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ) .
هذه الآيات الثلاث في بيان حال الأعراب منافقيهم ومؤمنيهم والظاهر أنها قد نزلت هي وما بعدها إلى آخر السورة بعد وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إلى
المدينة فهي بدء سياق جديد في تفصيل أحوال المسلمين في ذلك العهد ، بدئ بذكر الأعراب من المنافقين لمناسبة ما قبله وفصل عنه لأنه سياق جديد مع ما بعده . (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=97الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين ; لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان
المدينة وغيرها من القرى . فالأعراب اسم جنس لبدو العرب ، واحده أعرابي ، والأنثى أعرابية ، والجمع أعاريب أو العرب اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة ، بدوه وحضره ، واحده عربي . وقد وصف الأعراب بأمرين اقتضتهما طبيعة البداوة ( الأول ) أن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر . ولا سيما الذين يقيمون في
المدينة المنورة نفسها - لأنهم أغلظ طباعا ، وأقسى قلوبا وأقل ذوقا وآدابا - كدأب أمثالهم من بدو سائر الأمم - بما يقضون جل أعمارهم في رعي الأنعام وحمايتها من ضواري الوحوش ومن تعدي أمثالهم عليها وعلى نسائهم وذراريهم ، فهم
[ ص: 8 ] محرومون من وسائل العلوم الكسبية ، والآداب الاجتماعية ( الثاني ) أنهم أجدر : أي أحق وأخلق من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى في كتابه وما آتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود بسنن أقواله وأفعاله . وفهم ألفاظ القرآن اللغوية لا يكفي في علم حدوده العملية . كان أهل
المدينة وما حولها من القرى يتلقون عنه - صلى الله عليه وسلم - كل ما ينزل من القرآن وقت نزوله ، ويشهدون سنته في العمل به ، وكان يرسل العمال إلى البلاد المفتوحة يقيمون فيها ويبلغون القرآن ، ويحكمون بين الناس به وبالسنة المبينة له فيعرف أهلها تلك الحدود التي حدها الله تعالى ونهاهم أن يعتدوها . ولم يكن هذا كله ميسورا لأهل البوادي ، وهم مأمورون بالهجرة ; لأجل العلم والنصرة ; لأن الإسلام دين علم وحضارة .
فالأعراب أجدر بالجهل من الحضر بطبيعة البداوة لا بضعف أفهامهم ، أو بلادة أذهانهم أو ضيق نطاق بيانهم ، فقد كانوا مضرب الأمثال في قوة الجنان ، ولوذعية الأذهان ، وذرابة اللسان وسعة بيداء البيان ، وعنهم أخذ رواة العربية أكثر مفردات العربية وأساليبها .
والجدارة بالشيء قد تكون طبعية ، وقد تكون بأسباب كسبية ، من فنية وشرعية وأدبية ، وقد تكون بأسباب سلبية اقتضتها حالة المعيشة والبيئة ، قيل : إنها مشتقة من الجدار وهو الحائط الذي يكون حدا للبستان أو الدار ، وقيل : من جدر الشجرة ، ويرادف الجدير بالشيء والأجدر ، الحقيق والأحق ، والخليق والأخلق ، وقد يستعمل أفعل في كل منها للتفضيل مع التصريح بالمفضل عليه غالبا كحديث ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920400والثيب أحق بنفسها من وليها ) ) ومع تركه للعلم به أحيانا ، ومنه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72ورضوان من الله أكبر ) ( 9 : 72 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=97والله عليم حكيم ) واسع العلم بأمور عباده وصفاتهم وأحوالهم الظاهرة من بداوة وحضارة وعلم وجهل ، والباطنة من إيمان وكفر ، وإخلاص ونفاق تام الحكمة فيما يحكم به عليهم ، وما يشرعه لهم وما يجزيهم به ، من نعيم مقيم ، أو عذاب أليم .
روى
أحمد وأصحاب السنن . ما عدا
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه .
والبيهقي في الشعب عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يرفعه ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920401من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن ) ) قال
الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري .
وروى
أبو داود والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920402من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن ، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا ) ) وسبب الأخير أن السلاطين قلما يرضون عمن يلتزم الحق والصدق والنصح الصريح ، وقلما يأتيهم ويزداد قربا منهم إلا الذي يمدحهم بالباطل ويعينهم على الظلم ولو بالتأول لهم ، وقد بينا هذا المعنى في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=61ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ) ( 61 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ) تقدم في الآية ( 90 ) أن بعض الأعراب
[ ص: 9 ] جاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - معذرين ليأذن لهم في القعود عن غزوة
تبوك ، وذكر في هذه الآية حال الذين كانوا ينفقون بعض أموالهم في سبيل الجهاد رياء وتقية فيعدون ما ينفقونه من المغارم وهي ما يلزمه المرء مما يثقل عليه فيلتزمه كرها أو طوعا لدفع مكروه عن نفسه أو عن قومه وليس له فيه منفعة ذاتية . ولم يكن هؤلاء الأعراب المنافقون يرجون بهذه النفقة جزاء في الآخرة ; لأنهم لا يؤمنون بالبعث . ولهذا قال
الضحاك : يعني بالمغرم أنه لا يرجو ثوابا عند الله ولا مجازاة وإنما يعطي ما يعطي من الصدقات كرها . وعن
ابن زيد إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرما ( قال ) وهم
بنو أسد وغطفان .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98ويتربص بكم الدوائر ) أي ينتظرون دوائر الزمان : أي تصاريفه ونوائبه التي تدور بالناس وتحيط بهم بشرورها أن تنزل بكم فتبدل قوتكم ضعفا ، وعزكم ذلا ، وانتصاركم هزيمة وكسرا ، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم ، بالتبع للخروج من طاعتكم ، والاستغناء عن إظهار الإسلام نفاقا لكم . كانوا أولا يتوقعون ظهور المشركين
واليهود على المؤمنين ، فلما يئسوا من ذلك صاروا ينتظرون موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظنون أن الإسلام يموت بموته - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - . وهكذا يعلل الجاهل الضعيف نفسه الخبيثة بالأماني والأوهام .
وإذا كان منافقو
المدينة الذين هم أجدر من هؤلاء الأعراب أن يعلموا ما في الإسلام من القوة الذاتية ، وما في اعتصام المؤمنين الصادقين به من القوة الحربية ، كانوا يتربصون بالمؤمنين الهزيمة من
الروم في
تبوك ، وكانوا إن أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصيبة مما لا يخلو عنه البشر يفرحون ويقولون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=50قد أخذنا أمرنا من قبل ) ( 9 : 5 ) أي احتطنا لهذه العاقبة قبل وقوعها ، فهل يستغرب مثل هذا التربص من الأعراب سكان البادية الذين يجهلون ما ذكر ؟ ( راجع تفسير الآيات 50 - 45 ) من هذه السورة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98عليهم دائرة السوء ) دعاء عليهم بما يتربصونه بالمؤمنين ، أو خبر بحقيقة حالهم معهم ، ومآل الاحتمالين واحد ; لأن الخبر في كلامه تعالى حق ومضمونه كمضمون الدعاء واقع ما له من دافع ، والدعاء منه عز وجل يراد به مآله وهو وقوع السوء عليهم وإحاطته بهم .
والسوء بالفتح في قراءة الجمهور : وهو مصدر ساءه الأمر ضد سره ، وقرأه
ابن كثير وأبو عمرو هاهنا وفي سورة الفتح بالضم وهو اسم لما يسوء ، والإضافة : كرجل صدق وقدم صدق . وتقديم الخبر يفيد الحصر : أي عليهم وحدهم الدائرة السوأى تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم ; فإن هؤلاء لا عاقبة لهم تتربص بهم إلا ما يسرهم ويفرحهم من نصر الله وتوفيقه لهم ، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة حتى بأموالهم وأولادهم ، كما تقدم في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) ( 52 ) وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=55فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) ( 55 ) .
[ ص: 10 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98والله سميع عليم ) لا يخفى عليه شيء من أقوالهم المعبرة عن شعورهم واعتقادهم في نفقاتهم إذا تحدثوا بها فيما بينهم ، وأقوالهم التي يقولونها للرسول أو لعماله على الصدقات ، أو لغيرهم من المؤمنين مراءاة لهم ، ولا من أعمالهم التي يعملونها ومن نياتهم وسرائرهم التي يخفونها ، فهو سيحاسبهم على ما يسمع ويعلم - أي على كل قول وفعل - ويجزيهم به .
ولما ذكر حال هؤلاء الأعراب المنافقين عطف عليه بيان حال المؤمنين الصادقين منهم فقال .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) إيمانا صادقا إذعانيا تصدر عنه آثاره من العمل الصالح . قال
مجاهد : هم
بنو مقرن من
مزينة وهم الذين قال الله فيهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=92ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ( 92 ) الآية . وقال
الكلبي : هم
أسلم وغفار وجهينة ومزينة ، وثم روايات أخرى فيهم والنص يشمل جميع المؤمنين الصادقين منهم ومن غيرهم من الأعراب وقد ذكر من وصفهم ضد ما ذكره في وصف من قبلهم في أمر النفقة في سبيل الله فقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) أي يتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين عظيمين أولهما القربات والزلفى عند الله عز وجل ، وثانيهما صلوات الرسول ، أي أدعيته ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان
nindex.php?page=treesubj&link=23468يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولم يثبت في النص انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح ، والسنة الحسنة يتبع فيها . فهذا القصد في اتخاذ الصدقات ضد اتخاذ المنافقين إياها مغرما . والقربات كالقرب جمع قربة ( بضم القاف ) وهي في المنزلة والمكانة . كالقرب في المكان والقربى في الرحم ، والأصل في الكل واحد : وهو الدنو من الشيء مطلقا ، فقصد القربة في العمل هو الإخلاص وابتغاء مرضاة الله ورحمته ومثوبته فيه ، وجمعها باعتبار تعدد النفقات ففيه إيماء إلى إخلاصهم في كل فرد منها
nindex.php?page=treesubj&link=843والصلوات جمع صلاة ومعناها ، أو أحد معانيها في أصل اللغة الدعاء ، وإطلاقها على العبادة المخصوصة من أركان الإسلام شرعي وجهه أن الدعاء هو روحها الأعظم ; لأنه مخ العبادة وسرها الذي تتحقق به العبودية على أكمل وجوهها وهو في الفاتحة فريضة ، وفي السجود فضيلة ويأتي قريبا بيان هذه الصلوات على المتصدقين في تفسير الآية : ( 103 ) .
وقد بين الله تعالى جزاء هؤلاء الأعراب على ما يشهد لهم به من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله ، وأدائهم به حق الله ، وهو قصد القربة عنده . وحق الرسول وهو طلب دعائه لهم بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها ، فقال بأسلوب الاستئناف المشعر بالاهتمام
[ ص: 11 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99ألا إنها قربة لهم ) وهو إخبار بقبوله تعالى لنفقتهم . مؤكد بافتتاحه بأداة التنبيه الدالة على الاهتمام بما بعدها وهي ( ألا ) وبــ ( إن ) الدالة على تحقيق مضمون الجملة ، وبالجملة الاسمية فقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99إنها قربة ) راجع إلى النفقة المأخوذة من قوله : ( ما ينفق ) فإفراد القربة لأنها خبر لضمير المفرد .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99سيدخلهم الله في رحمته ) تفسير لهذه القربة ، والمراد بالرحمة هنا الرحمة الخاصة بمن - رضي الله عنهم - وهي هداية الصراط المستقيم وما تنتهي إليه من دار نعيم ومعنى إدخالهم فيها أن يكونوا مغمورين فيها وتكون هي محيطة بهم شاملة لهم . وهذا أبلغ من مثل (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21يبشرهم ربهم برحمة منه ) ( 9 : 21 ) والسين في قوله : ( سيدخلهم ) لتأكيد الوعد وتحقيقه ، وتقدم مثله . وعلله بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99إن الله غفور رحيم ) أي واسع المغفرة والرحمة
nindex.php?page=treesubj&link=19695يغفر للمخلصين في أعمالهم ما يلمون به من ذنب أو تقصير ، ويرحم الصادقين في إيمانهم فيهديهم به إلى أحسن العمل وخير المصير . وفي الآية من بلاغة الإيجاز ما يدل على علو مقام هؤلاء الأعراب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=97nindex.php?page=treesubj&link=28980_30881الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ حَالِ الْأَعْرَابِ مُنَافِقِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ وُصُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ ، بُدِئَ بِذِكْرِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ وَفَصْلٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ مَعَ مَا بَعْدَهُ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=97الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) بَيَانٌ مُسْتَأْنِفٌ لِحَالِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ فِي مُنَافِقِي الْحَضَرِ مِنْ سُكَّانِ
الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى . فَالْأَعْرَابُ اسْمُ جِنْسٍ لِبَدْوِ الْعَرَبِ ، وَاحِدُهُ أَعْرَابِيٌّ ، وَالْأُنْثَى أَعْرَابِيَّةٌ ، وَالْجَمْعُ أَعَارِيبُ أَوِ الْعَرَبُ اسْمُ جِنْسٍ لِهَذَا الْجِيلِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ ، بَدْوِهِ وَحَضَرِهِ ، وَاحِدُهُ عَرَبِيٌّ . وَقَدْ وَصَفَ الْأَعْرَابَ بِأَمْرَيْنِ اقْتَضَتْهُمَا طَبِيعَةُ الْبَدَاوَةِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ كُفَّارَهُمْ وَمُنَافِقِيهِمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ . وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي
الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ نَفْسِهَا - لِأَنَّهُمْ أَغْلَظُ طِبَاعًا ، وَأَقْسَى قُلُوبًا وَأَقَلُّ ذَوْقًا وَآدَابًا - كَدَأْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ بَدْوِ سَائِرِ الْأُمَمِ - بِمَا يَقْضُونَ جُلَّ أَعْمَارِهِمْ فِي رَعْيِ الْأَنْعَامِ وَحِمَايَتِهَا مِنْ ضَوَارِي الْوُحُوشِ وَمِنْ تَعَدِّي أَمْثَالِهِمْ عَلَيْهَا وَعَلَى نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ، فَهُمْ
[ ص: 8 ] مَحْرُومُونَ مِنْ وَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَسْبِيَّةِ ، وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ( الثَّانِي ) أَنَّهُمْ أَجْدَرُ : أَيْ أَحَقُّ وَأَخْلَقُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فِي كِتَابِهِ وَمَا آتَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا تِلْكَ الْحُدُودَ بِسُنَنِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَفَهْمُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيَّةِ لَا يَكْفِي فِي عِلْمِ حُدُودِهِ الْعَمَلِيَّةِ . كَانَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَقْتَ نُزُولِهِ ، وَيَشْهَدُونَ سُنَّتَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ ، وَكَانَ يُرْسِلُ الْعُمَّالَ إِلَى الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيُبَلِّغُونَ الْقُرْآنَ ، وَيَحْكُمُونَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ فَيَعْرِفُ أَهْلُهَا تِلْكَ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ أَنْ يَعْتَدُّوهَا . وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ مَيْسُورًا لِأَهْلِ الْبَوَادِي ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْهِجْرَةِ ; لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالنُّصْرَةِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ عِلْمٍ وَحَضَارَةٍ .
فَالْأَعْرَابُ أَجْدَرُ بِالْجَهْلِ مِنَ الْحَضَرِ بِطَبِيعَةِ الْبَدَاوَةِ لَا بِضَعْفِ أَفْهَامِهِمْ ، أَوْ بَلَادَةِ أَذْهَانِهِمْ أَوْ ضِيقِ نِطَاقِ بَيَانِهِمْ ، فَقَدْ كَانُوا مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ فِي قُوَّةِ الْجَنَانِ ، وَلَوْذَعِيَّةِ الْأَذْهَانِ ، وَذَرَابَةِ اللِّسَانِ وَسَعَةِ بَيْدَاءِ الْبَيَانِ ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ رُوَاةُ الْعَرَبِيَّةِ أَكْثَرَ مُفْرَدَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا .
وَالْجَدَارَةُ بِالشَّيْءِ قَدْ تَكُونُ طَبْعِيَّةً ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَسْبِيَّةٍ ، مِنْ فَنِّيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ سَلْبِيَّةٍ اقْتَضَتْهَا حَالَةُ الْمَعِيشَةِ وَالْبِيئَةِ ، قِيلَ : إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجِدَارِ وَهُوَ الْحَائِطُ الَّذِي يَكُونُ حَدًّا لِلْبُسْتَانِ أَوِ الدَّارِ ، وَقِيلَ : مِنْ جُدُرِ الشَّجَرَةِ ، وَيُرَادِفُ الْجَدِيرُ بِالشَّيْءِ وَالْأَجْدَرُ ، الْحَقِيقَ وَالْأَحَقَّ ، وَالْخَلِيقَ وَالْأَخْلَقَ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَفْعَلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا لِلتَّفْضِيلِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ غَالِبًا كَحَدِيثِ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920400وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ) ) وَمَعَ تَرْكِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ أَحْيَانًا ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) ( 9 : 72 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=97وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وَاسِعُ الْعِلْمِ بِأُمُورِ عِبَادِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ مِنْ بَدَاوَةٍ وَحَضَارَةٍ وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ ، وَالْبَاطِنَةِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ ، وَإِخْلَاصٍ وَنِفَاقٍ تَامِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ وَمَا يَجْزِيهِمْ بِهِ ، مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .
رَوَى
أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ . مَا عَدَا
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابْنَ مَاجَهْ .
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشَّعْبِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920401مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا ، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ ) ) قَالَ
التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثَّوْرِيِّ .
وَرَوَى
أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920402مَنْ بَدَا جَفَا ، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ ، وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنْ سُلْطَانِهِ قُرْبًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ) ) وَسَبَبُ الْأَخِيرِ أَنَّ السَّلَاطِينَ قَلَّمَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ يَلْتَزَمُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالنُّصْحَ الصَّرِيحَ ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِمْ وَيَزْدَادُ قُرْبًا مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِي يَمْدَحُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَيُعِينُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَلَوْ بِالتَّأَوُّلِ لَهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=61وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) ( 61 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا ) تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ( 90 ) أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ
[ ص: 9 ] جَاءُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَذِّرِينَ لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ عَنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ الْجِهَادِ رِيَاءً وَتَقِيَّةً فَيَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنَ الْمَغَارِمِ وَهِيَ مَا يَلْزَمُهُ الْمَرْءُ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَلْتَزِمُهُ كُرْهًا أَوْ طَوْعًا لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ذَاتِيَّةٌ . وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُونَ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ . وَلِهَذَا قَالَ
الضَّحَّاكُ : يَعْنِي بِالْمَغْرَمِ أَنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا مُجَازَاةً وَإِنَّمَا يُعْطِي مَا يُعْطِي مِنَ الصَّدَقَاتِ كُرْهًا . وَعَنِ
ابْنِ زَيْدٍ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ رِيَاءً اتِّقَاءَ أَنْ يُغْزَوْا وَيُحَارَبُوا وَيُقَاتَلُوا وَيَرَوْنَ نَفَقَاتِهِمْ مَغْرَمًا ( قَالَ ) وَهُمْ
بَنُو أَسَدٍ وَغَطَفَانَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ) أَيْ يَنْتَظِرُونَ دَوَائِرَ الزَّمَانِ : أَيْ تَصَارِيفَهُ وَنَوَائِبَهُ الَّتِي تَدُورُ بِالنَّاسِ وَتُحِيطُ بِهِمْ بِشُرُورِهَا أَنْ تَنْزِلَ بِكُمْ فَتُبَدِّلَ قُوَّتَكُمْ ضَعْفًا ، وَعِزَّكُمْ ذُلًّا ، وَانْتِصَارَكُمْ هَزِيمَةً وَكَسْرًا ، فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْمَغَارِمِ لَكُمْ ، بِالتَّبَعِ لِلْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِكُمْ ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا لَكُمْ . كَانُوا أَوَّلًا يَتَوَقَّعُونَ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ
وَالْيَهُودِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ صَارُوا يَنْتَظِرُونَ مَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمُوتُ بِمَوْتِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - . وَهَكَذَا يُعَلِّلُ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ نَفْسَهُ الْخَبِيثَةَ بِالْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ .
وَإِذَا كَانَ مُنَافِقُو
الْمَدِينَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجْدَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ ، وَمَا فِي اعْتِصَامِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ ، كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْهَزِيمَةَ مِنَ
الرُّومِ فِي
تَبُوكَ ، وَكَانُوا إِنْ أَصَابَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصِيبَةٌ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ يَفْرَحُونَ وَيَقُولُونَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=50قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ ) ( 9 : 5 ) أَيِ احْتَطْنَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا ، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ مِثْلُ هَذَا التَّرَبُّصِ مِنَ الْأَعْرَابِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ مَا ذُكِرَ ؟ ( رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 50 - 45 ) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ) دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَرَبَّصُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ ، أَوْ خَبَرٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ مَعَهُمْ ، وَمَآلُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى حَقٌّ وَمَضْمُونَهُ كَمَضْمُونِ الدُّعَاءِ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ، وَالدُّعَاءُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ يُرَادُ بِهِ مَآلُهُ وَهُوَ وُقُوعُ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ .
وَالسَّوْءُ بِالْفَتْحِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ : وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ الْأَمْرُ ضِدَّ سَرَّهُ ، وَقَرَأَهُ
ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ ، وَالْإِضَافَةُ : كَرَجُلِ صِدْقٍ وَقَدَمِ صِدْقٍ . وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ : أَيْ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمُ الدَّائِرَةُ السُّوأَى تُحِيطُ بِهِمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَهَا بِهِمْ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا عَاقِبَةَ لَهُمْ تَتَرَبَّصُ بِهِمْ إِلَّا مَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ ، وَمَا يَسُوءُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ خِذْلَانٍ وَخَيْبَةٍ وَتَعْذِيبٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَتَّى بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) ( 52 ) وَقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=55فَلَا تُعْجِبْكُ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ) ( 55 ) .
[ ص: 10 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=98وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُعَبِّرَةِ عَنْ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي نَفَقَاتِهِمْ إِذَا تَحَدَّثُوا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَقُولُونَهَا لِلرَّسُولِ أَوْ لِعُمَّالِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ ، أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُرَاءَاةً لَهُمْ ، وَلَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمِنْ نِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمُ الَّتِي يُخْفُونَهَا ، فَهُوَ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ - أَيْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ - وَيَجْزِيهِمْ بِهِ .
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الْمُنَافِقِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إِيمَانًا صَادِقًا إِذْعَانِيًّا تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . قَالَ
مُجَاهِدٌ : هُمْ
بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ
مُزَيْنَةَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=92وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ) ( 92 ) الْآيَةَ . وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ : هُمْ
أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ ، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِيهِمْ وَالنَّصُّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَقَدْ ذَكَرَ مِنْ وَصْفِهِمْ ضِدَّ مَا ذَكَرَهُ فِي وَصْفِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ) أَيْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُهُ وَسِيلَةً لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَوَّلُهُمَا الْقُرُبَاتُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَثَانِيهِمَا صَلَوَاتُ الرَّسُولِ ، أَيْ أَدْعِيَتُهُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=23468يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّصِّ انْتِفَاعُ أَحَدٍ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِلَّا الدُّعَاءَ وَمَا يَكُونُ الْمَرْءُ سَبَبًا فِيهِ كَالْوَلَدِ الصَّالِحِ ، وَالسَّنَّةُ الْحَسَنَةُ يُتَّبَعُ فِيهَا . فَهَذَا الْقَصْدُ فِي اتِّخَاذِ الصَّدَقَاتِ ضِدُّ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهَا مَغْرَمًا . وَالْقُرُبَاتُ كَالْقُرَبِ جَمْعُ قُرْبَةٍ ( بِضَمِّ الْقَافِ ) وَهِيَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ . كَالْقُرْبِ فِي الْمَكَانِ وَالْقُرْبَى فِي الرَّحِمِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ : وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا ، فَقَصْدُ الْقُرْبَةِ فِي الْعَمَلِ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِيهِ ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّفَقَاتِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى إِخْلَاصِهِمْ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=843وَالصَّلَوَاتُ جَمْعُ صَلَاةٍ وَمَعْنَاهَا ، أَوْ أَحَدُ مَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الدُّعَاءُ ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ شَرْعِيٌّ وَجْهُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ رُوحُهَا الْأَعْظَمُ ; لِأَنَّهُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْعُبُودِيَّةُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا وَهُوَ فِي الْفَاتِحَةِ فَرِيضَةٌ ، وَفِي السُّجُودِ فَضِيلَةٌ وَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُتَصَدِّقِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ : ( 103 ) .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ عَلَى مَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِهِ مِنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَدَائِهِمْ بِهِ حَقَّ اللَّهِ ، وَهُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ عِنْدَهُ . وَحَقُّ الرَّسُولِ وَهُوَ طَلَبُ دُعَائِهِ لَهُمْ بِقَبُولِ نَفَقَتِهِمْ وَإِثَابَتِهِمْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُشْعِرِ بِالِاهْتِمَامِ
[ ص: 11 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ) وَهُوَ إِخْبَارٌ بِقَبُولِهِ تَعَالَى لِنَفَقَتِهِمْ . مُؤَكَّدٌ بِافْتِتَاحِهِ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَهَا وَهِيَ ( أَلَا ) وَبِــ ( إِنَّ ) الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ ، وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99إِنَّهَا قُرْبَةٌ ) رَاجِعٌ إِلَى النَّفَقَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْلِهِ : ( مَا يُنْفِقُ ) فَإِفْرَادُ الْقُرْبَةِ لِأَنَّهَا خَبَرٌ لِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ) تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْقُرْبَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِمَنْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهِيَ هِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ دَارِ نَعِيمٍ وَمَعْنَى إِدْخَالِهِمْ فِيهَا أَنْ يَكُونُوا مَغْمُورِينَ فِيهَا وَتَكُونُ هِيَ مُحِيطَةً بِهِمْ شَامِلَةً لَهُمْ . وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ مَثَلٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ) ( 9 : 21 ) وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ : ( سَيُدْخِلُهُمْ ) لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ وَتَحْقِيقِهِ ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ . وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=99إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أَيْ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=19695يَغْفِرُ لِلْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ ، وَيَرْحَمُ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ فَيَهْدِيهِمْ بِهِ إِلَى أَحْسَنِ الْعَمَلِ وَخَيْرِ الْمَصِيرِ . وَفِي الْآيَةِ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ مَقَامِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ .