( طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم - وفضل قومه واصطفاؤه من خيارهم )
من المأثور في تفسير الآيتين ما ذكروا في قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128رسول من أنفسكم ) من الأحاديث المرفوعة في
nindex.php?page=treesubj&link=30595طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم - من سفاح الجاهلية ومن
nindex.php?page=treesubj&link=29260فضل قومه وعشيرته وعترته وأهل بيته على غيرهم ، وأصح ما ورد في هذا ما رواه
مسلم nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث
واثلة - رضي الله عنه - مرفوعا ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920440إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ) ) ولم أر لأحد من العلماء بيانا لمعنى هذا الاصطفاء بم كان ؟ وقد وفقني الله لاستنباطه من التاريخ العام ، وبينته في المنار وفي خلاصة السيرة المحمدية في جواب السؤال عن
nindex.php?page=treesubj&link=28747حكمة بعثة خاتم النبيين ، وبالرسالة العامة للناس أجمعين ، بالدين العام للبدو والحضر ، من العرب الذين غلبت عليهم جهالة البدو ، وبعد عهدهم بما سبق لأمتهم من الحضارة والعلم ، ولم يبعث من بعض شعوب الحضارة القريبة كالفرس والروم والهند والصين ، ويليه السؤال عن مزية
كنانة في العرب
[ ص: 77 ] من
آل إسماعيل ، الذين امتازوا على سائر العرب بأنهم ممن اصطفى الله من
آل إبراهيم ، ثم عن مزية
قريش في
بني كنانة ، وفضل
بني هاشم على سائر
قريش ؟
خلاصة ما بينته في
nindex.php?page=treesubj&link=29260_31575فضل العرب على سائر الأمم ، الذي أعدهم به الله لبعثة سيد البشر من العرب والعجم ، بالدين العام الباقي هي : أن جميع شعوب الحضارة المشار إليها وغيرها كانت قد فسدت غرائزها وأخلاقها الفطرية ، وعقائدها الدينية ، وآدابها التقليدية ، بفساد رؤساء الدين والدنيا فيها ، وتعاون الفريقين على استعبادها واستذلالها لهما ، وتسخيرها لتوفير لذاتهما وتشييد صروح عظمتهما ، بسلب حريتهم العقلية بالتقاليد الدينية التي يفرض عليهم الكهنة والأحبار والقسوس الخضوع لها ، بدون أن يكون لهم أدنى رأي أو اختيار أو فهم فيها ، بسلب حرية إرادتهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية بما يضع لهم الملوك والحكام من القوانين والنظم الإدارية والعسكرية الاستبدادية ، وبتحكمهم فيهم بدون قانون ولا نظام أيضا ، فجميع الأمم والشعوب كانت مرهقة مستعبدة في دينها ودنياها إلا العرب ولا سيما عرب
الحجاز .
وأما العرب فلم يكن عندهم رياسة حكم استبدادية تستذلهم وتفسد بأسهم وتقهر إرادتهم على ما لا يريدون ، ولا رياسة دينية تقهرهم على اتباع تقاليد لا يعقلونها بل كانوا على أتم الحرية العقلية واستقلال الإرادة في دينهم ودنياهم ، وفي أعلى ذروة من عزة النفس ، وشدة البأس فبحرية عقولهم كانوا على أتم الاستعداد لفهم دين العقل والفطرة ، وباستقلال إرادتهم كانوا على أكمل الاستعداد للنهوض بما اعتقدوا حقيته وصلاحه وخيريته ، ولإقامته في قومهم ، ونشره في غيرهم ، والدفاع عنه باختيارهم ، وتصرفهم في كل ذلك بمقتضى الوازع النفسي ، دون تحكم رئيس ديني ولا دنيوي ; فإن هذا الدين إنما أوجب طاعة الأئمة والقواد بالمعروف والإذعان للشرع ، وما تضعه الأمة لنفسها من النظام بالشورى بين ممثليها من أهل الحل والعقد ، حتى فرض الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاورتها في أمورها ، وقال له ربه في صيغة مبايعة نسائها له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=12ولا يعصينك في معروف ) ( 60 : 12 ) وبها كان يبايع الرجال كالنساء ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=919139لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما الطاعة في المعروف ) ) رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من حديث
علي كرم الله وجهه .
وأما
كنانة فقد كان
nindex.php?page=treesubj&link=30595_31575أشهر ذرية إسماعيل في العلم والحكمة ، والكرم والنبل ، حتى كانت العرب تحج إليه ، وينقلون عنه حكما رائعة ، وكفى بهذا اصطفاء عليهم ، وامتيازا فيهم .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=31576_30591امتياز قريش على سائر العرب فهو معروف متواتر ، وأهمه أن ما ذكرناه من عزة النفس ، واستقلال الإرادة والعقل كان أكمل فيهم ، فإن بعض العرب في أطراف جزيرتهم خضعوا لسيادة
الفرس والروم خضوعا ما ، وجملته أنهم كانوا أصرح ولد
إسماعيل أنسابا ، وأشرفهم أحسابا ، وأعلاهم آدابا ، وأفصحهم ألسنة ، وهم الممهدون لجمع الكلمة العامة ، بعد أن جمع ( قصي ) جميع قبائلهم
بمكة ، واستقلوا بخدمة
المسجد الحرام من الحجابة وسقاية الحاج والرفادة - وهي إسعاف الفقراء والمساكين من الحجاج وغيرهم -
[ ص: 78 ] وأسسوا دار الندوة لأجل الشورى في الأمور المهمة ، وكانوا أعرف العرب ببطون العرب في جميع جزيرتهم بما كانوا يتناوبونه من رحلة الشتاء والصيف ، وبذلك كانوا أغنى العرب أيضا وأشرفهم بلا منازع ، وناهيك بما عقدوا من حلف الفضول في حداثة سن الرسول ، وهو أنهم تعاقدوا أو تعاهدوا ألا يجدوا
بمكة مظلوما إلا قاموا معه ، وكانوا عونا له على من ظلمه إلى أن ترد مظلمته .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير بن العوام nindex.php?page=showalam&ids=94وأم هانئ عن
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني وتاريخ
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003461nindex.php?page=treesubj&link=31576فضل الله قريشا بسبع خصال : فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا قرشي ( أي لا يعبده وحده من العرب إلا قرشي ) وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون ( أي نصرهم على قوة تفوق قوتهم كثيرا بما يشبه نصره لرسله في كونه بدون استعداد كسبي يقرب من استعداد عدوهم ) وفضلهم بأنه نزل فيهم سورة من القرآن ، لم يدخل فيها أحد من العالمين وهي : ( لإيلاف قريش ) ( 106 : 1 ) وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية ) )
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=31587اصطفاؤه تعالى لبني هاشم على قريش فقد كان بما امتازوا به من الفضائل والمكارم ، فقد كان جدهم
هاشم هو صاحب إيلاف
قريش الذي أخذ لهم العهد من قيصر
الروم على حمايتهم في رحلة الصيف إلى
الشام ، ومن حكومة
اليمن في رحلة الشتاء ، وهو
nindex.php?page=treesubj&link=31587أول من هشم الثريد للفقراء من قومه ولأهل موسم الحج كافة ، وقد أربى عليه في السخاء والكرم ولده
عبد المطلب ، وجملة القول أن
بني هاشم كانوا أكرم
قريش أخلاقا وأبعدهم عن الكبر والأثرة ، ولا ينازعهم أحد في ذلك ، وقد قال
أبو جهل في حسده إياهم على كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم : تنازعنا نحن
وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . . . حتى إذا زاحمناهم بالمناكب قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ؟ ويؤخذ منه أنهم كانوا يعلمون أن النبوة لا يمكن أن تكون بالاجتهاد والمباراة الكسبية في الفضائل ، وأن القرآن لا يمكن أن يعارضه أحد في بلاغته ولا هدايته ; لأنه من الله لا من علم
محمد - صلى الله عليه وسلم - وفصاحته وبلاغته ، ولولا ذلك لعارضه من كانوا أشهر العرب في ذلك ولم يكن محمد منهم .
وقد ورد في
nindex.php?page=treesubj&link=28891فضل هذه الخاتمة لهذه السورة المباركة ما رواه
أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء موقوفا
nindex.php?page=showalam&ids=12769وابن السني عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء مرفوعا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920444من nindex.php?page=treesubj&link=24432قال حين يصبح وحين يمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم - سبع مرات - كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة ) ) كذا في الدر المنثور ، ويراجع ما قاله
ابن كثير في آخر تفسير السورة فيه ، وهو لا يمنع العمل به ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين .
( تم تفسير سورة براءة بفضل الله وتوفيقه في شهر صفر سنة خمسين وثلاثمائة وألف وبقي تلخيص ما فيها من أصول الدين وأحكامه وسياسته وآدابه وسنن الله في ذلك ، فنسأله تعالى توفيقنا فيه للحق الذي يرضاه وينفع عباده ) .
( طَهَارَةُ نَسَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلُ قَوْمِهِ وَاصْطِفَاؤُهُ مِنْ خِيَارِهِمْ )
مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ مَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30595طَهَارَةِ نَسَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29260فَضْلِ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَعِتْرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ
وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920440إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ) ) وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانًا لِمَعْنَى هَذَا الِاصْطِفَاءِ بِمَ كَانَ ؟ وَقَدْ وَفَّقَنِي اللَّهُ لِاسْتِنْبَاطِهِ مِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ ، وَبَيَّنْتُهُ فِي الْمَنَارِ وَفِي خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28747حِكْمَةِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، وَبِالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، بِالدِّينِ الْعَامِّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ ، مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ جَهَالَةُ الْبَدْوِ ، وَبَعْدَ عَهْدِهِمْ بِمَا سَبَقَ لِأُمَّتِهِمْ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ ، وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْ بَعْضِ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْقَرِيبَةِ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ ، وَيَلِيهِ السُّؤَالُ عَنْ مَزِيَّةِ
كِنَانَةَ فِي الْعَرَبِ
[ ص: 77 ] مِنْ
آلِ إِسْمَاعِيلَ ، الَّذِينَ امْتَازُوا عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ مِمَّنِ اصْطَفَى اللَّهُ مِنْ
آلِ إِبْرَاهِيمَ ، ثُمَّ عَنْ مَزِيَّةِ
قُرَيْشٍ فِي
بَنِي كِنَانَةَ ، وَفَضْلِ
بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ
قُرَيْشٍ ؟
خُلَاصَةُ مَا بَيَّنْتُهُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29260_31575فَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ ، الَّذِي أَعَدَّهُمْ بِهِ اللَّهُ لِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، بِالدِّينِ الْعَامِّ الْبَاقِي هِيَ : أَنَّ جَمِيعَ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا كَانَتْ قَدْ فَسَدَتْ غَرَائِزُهَا وَأَخْلَاقُهَا الْفِطْرِيَّةُ ، وَعَقَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ ، وَآدَابُهَا التَّقْلِيدِيَّةُ ، بِفَسَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيهَا ، وَتَعَاوُنِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِعْبَادِهَا وَاسْتِذْلَالِهَا لَهُمَا ، وَتَسْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ لَذَّاتِهِمَا وَتَشْيِيدِ صُرُوحِ عَظَمَتِهِمَا ، بِسَلْبِ حُرِّيَّتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ بِالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْكَهَنَةُ وَالْأَحْبَارُ وَالْقُسُوسُ الْخُضُوعَ لَهَا ، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَدْنَى رَأْيٍ أَوِ اخْتِيَارٍ أَوْ فَهْمٍ فِيهَا ، بِسَلْبِ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِمَا يَضَعُ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ ، وَبِتَحَكُّمِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ قَانُونٍ وَلَا نِظَامٍ أَيْضًا ، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ كَانَتْ مُرْهَقَةً مُسْتَعْبَدَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا إِلَّا الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ
الْحِجَازِ .
وَأَمَّا الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ رِيَاسَةُ حُكْمٍ اسْتِبْدَادِيَّةٌ تَسْتَذِلُّهُمْ وَتُفْسِدُ بَأْسَهُمْ وَتَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُونَ ، وَلَا رِيَاسَةٌ دِينِيَّةٌ تَقْهَرُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ تَقَالِيدَ لَا يَعْقِلُونَهَا بَلْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الْحُرِّيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَفِي أَعْلَى ذُرْوَةٍ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ فَبِحُرِّيَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ ، وَبِاسْتِقْلَالِ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلنُّهُوضِ بِمَا اعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ وَصَلَاحَهُ وَخَيْرِيَّتَهُ ، وَلِإِقَامَتِهِ فِي قَوْمِهِمْ ، وَنَشْرِهِ فِي غَيْرِهِمْ ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ ، دُونَ تَحَكُّمِ رَئِيسٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ ; فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُوَّادِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِذْعَانِ لِلشَّرْعِ ، وَمَا تَضَعُهُ الْأُمَّةُ لِنَفْسِهَا مِنَ النِّظَامِ بِالشُّورَى بَيْنَ مُمَثِّلِيهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ، حَتَّى فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَاوَرَتَهَا فِي أُمُورِهَا ، وَقَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي صِيغَةِ مُبَايَعَةِ نِسَائِهَا لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=12وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) ( 60 : 12 ) وَبِهَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالُ كَالنِّسَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=919139لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ) ) رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ .
وَأَمَّا
كِنَانَةُ فَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=30595_31575أَشْهَرَ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ، وَالْكَرَمِ وَالنُّبْلِ ، حَتَّى كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ إِلَيْهِ ، وَيَنْقُلُونَ عَنْهُ حِكَمًا رَائِعَةً ، وَكَفَى بِهَذَا اصْطِفَاءً عَلَيْهِمْ ، وَامْتِيَازًا فِيهِمْ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=31576_30591امْتِيَازُ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ مُتَوَاتَرٌ ، وَأَهَمُّهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ كَانَ أَكْمَلَ فِيهِمْ ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ خَضَعُوا لِسِيَادَةِ
الْفُرْسِ وَالرُّومِ خُضُوعًا مَا ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْرَحَ وَلَدِ
إِسْمَاعِيلَ أَنْسَابًا ، وَأَشْرَفَهُمْ أَحْسَابًا ، وَأَعْلَاهُمْ آدَابًا ، وَأَفْصَحَهُمْ أَلْسِنَةً ، وَهُمُ الْمُمَهِّدُونَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ الْعَامَّةِ ، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ ( قُصَيٌّ ) جَمِيعَ قَبَائِلِهِمْ
بِمَكَّةَ ، وَاسْتَقَلُّوا بِخِدْمَةِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالرِّفَادَةِ - وَهِيَ إِسْعَافُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ -
[ ص: 78 ] وَأَسَّسُوا دَارَ النَّدْوَةِ لِأَجْلِ الشُّورَى فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ، وَكَانُوا أَعْرَفَ الْعَرَبِ بِبُطُونِ الْعَرَبِ فِي جَمِيعِ جَزِيرَتِهِمْ بِمَا كَانُوا يَتَنَاوَبُونَهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَغْنَى الْعَرَبِ أَيْضًا وَأَشْرَفَهُمْ بِلَا مُنَازِعٍ ، وَنَاهِيكَ بِمَا عَقَدُوا مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ فِي حَدَاثَةِ سَنِّ الرَّسُولِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ تَعَاقَدُوا أَوْ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَجِدُوا
بِمَكَّةَ مَظْلُومًا إِلَّا قَامُوا مَعَهُ ، وَكَانُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ إِلَى أَنْ تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ .
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=15الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ nindex.php?page=showalam&ids=94وَأُمِّ هَانِئٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيِّ وَتَارِيخِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ ، ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003461nindex.php?page=treesubj&link=31576فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ : فَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إِلَّا قُرَشِيٌّ ( أَيْ لَا يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا قُرَشِيٌّ ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَصَرَهُمْ يَوْمَ الْفِيلِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ( أَيْ نَصَرَهُمْ عَلَى قُوَّةٍ تَفُوقُ قُوَّتَهُمْ كَثِيرًا بِمَا يُشْبِهُ نَصْرَهُ لِرُسُلِهِ فِي كَوْنِهِ بِدُونِ اسْتِعْدَادٍ كَسْبِيٍّ يَقْرُبُ مِنِ اسْتِعْدَادِ عَدُوِّهِمْ ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَزَّلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ وَهِيَ : ( لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ) ( 106 : 1 ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ وَالْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ ) )
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=31587اصْطِفَاؤُهُ تَعَالَى لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَدْ كَانَ بِمَا امْتَازُوا بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ ، فَقَدْ كَانَ جَدُّهُمْ
هَاشِمٌ هُوَ صَاحِبَ إِيلَافِ
قُرَيْشٍ الَّذِي أَخَذَ لَهُمُ الْعَهْدَ مِنْ قَيْصَرِ
الرُّومِ عَلَى حِمَايَتِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى
الشَّامِ ، وَمِنْ حُكُومَةِ
الْيَمَنِ فِي رِحْلَةِ الشِّتَاءِ ، وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=31587أَوَّلُ مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَوْسِمِ الْحَجِّ كَافَّةً ، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيْهِ فِي السَّخَاءِ وَالْكَرَمِ وَلَدُهُ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ
بَنِي هَاشِمٍ كَانُوا أَكْرَمَ
قُرَيْشٍ أَخْلَاقًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْأَثَرَةِ ، وَلَا يُنَازِعُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ
أَبُو جَهْلٍ فِي حَسَدِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ : تَنَازَعْنَا نَحْنُ
وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ : أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا ، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا ، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا . . . حَتَّى إِذَا زَاحَمْنَاهُمْ بِالْمَنَاكِبِ قَالُوا : مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ . فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ ؟ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالْمُبَارَاةِ الْكَسْبِيَّةِ فِي الْفَضَائِلِ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ أَحَدٌ فِي بَلَاغَتِهِ وَلَا هِدَايَتِهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ عِلْمِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ مَنْ كَانُوا أَشْهَرَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مِنْهُمْ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28891فَضْلِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ لِهَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا
nindex.php?page=showalam&ids=12769وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920444مَنْ nindex.php?page=treesubj&link=24432قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ) كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ ، وَيُرَاجَعُ مَا قَالَهُ
ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ فِيهِ ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
( تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ فِي شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ وَبَقِيَ تَلْخِيصُ مَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَآدَابِهِ وَسُنَنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَوْفِيقَنَا فِيهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَنْفَعُ عِبَادَهُ ) .