وجملة القول في هذا الباب أن
nindex.php?page=treesubj&link=30569سياسة الإسلام في المنافقين أن يعاملوا بحسب ظواهرهم وما يبدو من أعمالهم ، وأن للإمام الأعظم أو عليه - ومثله نوابه من أولياء الأمور - أن يعرض في الخطب العامة والتصريحات الرسمية بتقبيح ما يعلم من سوء أعمالهم والإنذار بسوء عواقبها ليعدهم للتوبة منها ، أو الحذر من إظهار ما يضمرونه من الشر الذي يترتب عليه العقاب .
وتتضمن هذه السياسة الأصول الآتية :
(
nindex.php?page=treesubj&link=30569الأصول الثلاثة في حرية الدين ، ومعاملة المنافقين )
1 - إن حرية الاعتقاد والوجدان مرعية لا سيطرة عليها للرؤساء الحاكمين ، ولا للمعلمين والمرشدين ، وإنما لهؤلاء حق في التربية والتعليم ، فليس لأحد أن يتهم إنسانا بإضمار الكفر ولا بنية الخيانة لملته أو دولته ، ولا بإرادة السوء لقومه وأمته ، ولا أن يعاقبه على ذلك بعقاب بدني ولا مالي ، ولا بحرمانه من الحقوق التي يتمتع بها غيره من أفراد الأمة .
2 - إنه ليس لمن يضمر الكفر بالله أو بما جاءت به رسله أن يكون فتنة للناس بإظهار ذلك لهم ودعوتهم إليه ، أو الطعن في عقائدهم ، أو إظهار ما ينافيها من قول أو عمل ، وإن لم يكن دعوة ولا طعنا ، فإن فعل ذلك وكان يدعي الإسلام يحكم بارتداده وخروجه من الملة ، إن كان ما أظهره من الكفر صريحا قطعيا مجمعا عليه لا يحتمل التأويل ، ويترتب عليه ما هو مقرر في الشرع من استتابته وعقابه إن لم يتب ( ومنه منع التوارث بينه وبين المسلمين وفسخ نكاحه بالمسلمات ، وعدم تشييع جنازته والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ) لأن حرية كل أحد في اعتقاده تقف عند حد حرية غيره . ولا سيما احترام عقائد الملة التي يعيش في ظل شريعتها ، وسائر شعائرها وعباداتها .
[ ص: 115 ] وليعلم القارئ أن كثيرا من الفقهاء قد أسرفوا في أبواب الردة في
nindex.php?page=treesubj&link=28669المسائل التي يحكم فيها بالكفر المخرج من الملة ، وبنوا كثيرا منه على اللوازم البعيدة ، والمحتملة للتأويلات القريبة ، وما ورد في
nindex.php?page=treesubj&link=28842صفات المنافقين في هذه السورة حجة عليهم ، وإن قال بعض العلماء المتقدمين : إن ما كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفاقا لا ينافي ظاهر الإسلام هو الآن كفر محض لا تقبل معه دعوى الإيمان ، فهذا قول باطل ، فكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هما الحجة في الدين ، والاهتداء بهما هو الواجب إلى يوم الدين ، فيجب قبول قول كل من أظهر الإسلام ولم يصرح بما ينافيه بما لا يحتمل التأويل ، ومما يحتمل التأويل احتمالا ظاهرا جميع المباحث العلمية المخالفة لظواهر النصوص كما هو مقرر في الأصول .
3 - إن
nindex.php?page=treesubj&link=30564من ظهر منه شيء من أمارات النفاق العملي في الدين ، أو الخيانة للأمة والملة بما هو غير صريح ، مما لا يعاقب عليه في الشرع بحد ولا تعزير ، فلولي الأمر أن يعظه بالتعريض ، ثم بالتصريح والتكشيف ، وله أن يعاقبه بما يرجى أن يزعه عن غيه من التأديب ، كالحرمان من مظاهر التشريف ، أو الإزورار والتقطيب ، أو التأديب والتعنيف ، كما بيناه في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=73جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ( 9 : 73 ) ومنه حرمان النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين تخلفوا عن غزوة
تبوك من الخروج معه إلى غزوة أخرى بقول الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=83فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ) ( 9 : 83 ) الآية .
ولكن الملوك المستبدين يقربون إليهم المنافقين فيزيدونهم فسادا ، ويجرئون غيرهم بل يرغبونه في النفاق وخيانة الأمة جهارا ، حتى إن المناصب الدينية المحضة صارت تنال بالنفاق ، ويذاد عنها أهل الصدق والإخلاص ، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
( انتهى بيان ما فتح الله به علينا من خلاصة هذه السورة )
( وكتب في أوقات متقطعة في سنة عسرة شديدة )
( وتم في ذي الحجة سنة 1350 )
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30569سِيَاسَةَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنْ يُعَامَلُوا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمَا يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ عَلَيْهِ - وَمِثْلُهُ نُوَّابُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ - أَنْ يُعَرِّضَ فِي الْخُطَبِ الْعَامَّةِ وَالتَّصْرِيحَاتِ الرَّسْمِيَّةِ بِتَقْبِيحِ مَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَالْإِنْذَارِ بِسُوءِ عَوَاقِبِهَا لِيَعُدَّهُمْ لِلتَّوْبَةِ مِنْهَا ، أَوِ الْحَذَرِ مِنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ .
وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ السِّيَاسَةُ الْأُصُولَ الْآتِيَةَ :
(
nindex.php?page=treesubj&link=30569الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ ، وَمُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ )
1 - إِنَّ حُرِّيَّةَ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ مَرْعِيَّةٌ لَا سَيْطَرَةَ عَلَيْهَا لِلرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ ، وَلَا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرْشِدِينَ ، وَإِنَّمَا لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَ إِنْسَانًا بِإِضْمَارِ الْكُفْرِ وَلَا بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ لِمِلَّتِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ ، وَلَا بِإِرَادَةِ السُّوءِ لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ ، وَلَا أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِقَابٍ بَدَنِيٍّ وَلَا مَالِيٍّ ، وَلَا بِحِرْمَانِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ .
2 - إِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ أَوْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ ، أَوِ الطَّعْنِ فِي عَقَائِدِهِمْ ، أَوْ إِظْهَارِ مَا يُنَافِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَعْوَةً وَلَا طَعْنًا ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْمِلَّةِ ، إِنْ كَانَ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْكُفْرِ صَرِيحًا قَطْعِيًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ مِنِ اسْتِتَابَتِهِ وَعِقَابِهِ إِنْ لَمْ يَتُبْ ( وَمِنْهُ مَنْعُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَسْخُ نِكَاحِهِ بِالْمُسْلِمَاتِ ، وَعَدَمِ تَشْيِيعِ جِنَازَتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ) لِأَنَّ حُرِّيَّةَ كُلٍّ أَحَدٍ فِي اعْتِقَادِهِ تَقِفُ عِنْدَ حَدِّ حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ . وَلَا سِيَّمَا احْتِرَامِ عَقَائِدَ الْمِلَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِي ظِلِّ شَرِيعَتِهَا ، وَسَائِرِ شَعَائِرِهَا وَعِبَادَاتِهَا .
[ ص: 115 ] وَلَيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَسْرَفُوا فِي أَبْوَابِ الرِّدَّةِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28669الْمَسَائِلِ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَبَنَوْا كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ ، وَالْمُحْتَمِلَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ الْقَرِيبَةِ ، وَمَا وَرَدَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28842صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : إِنَّ مَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِفَاقًا لَا يُنَافِي ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْآنَ كُفْرٌ مَحْضٌ لَا تُقْبَلُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِيمَانِ ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ ، فَكِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمَا الْحُجَّةُ فِي الدِّينِ ، وَالِاهْتِدَاءُ بِهِمَا هُوَ الْوَاجِبُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَا يُنَافِيهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، وَمِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ احْتِمَالًا ظَاهِرًا جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ .
3 - إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30564مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ فِي الدِّينِ ، أَوِ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ بِمَا هُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ ، مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِحَدٍّ وَلَا تَعْزِيرٍ ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعِظَهُ بِالتَّعْرِيضِ ، ثُمَّ بِالتَّصْرِيحِ وَالتَّكْشِيفِ ، وَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يُرْجَى أَنْ يَزَعَهُ عَنْ غَيِّهِ مِنَ التَّأْدِيبِ ، كَالْحِرْمَانِ مِنْ مَظَاهِرِ التَّشْرِيفِ ، أَوِ الْإِزْوِرَارِ وَالتَّقْطِيبِ ، أَوِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْنِيفِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=73جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) ( 9 : 73 ) وَمِنْهُ حِرْمَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=83فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا ) ( 9 : 83 ) الْآيَةَ .
وَلَكِنَّ الْمُلُوكَ الْمُسْتَبِدِّينَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقِينَ فَيَزِيدُونَهُمْ فَسَادًا ، وَيُجَرِّئُونَ غَيْرَهُمْ بَلْ يُرَغِّبُونَهُ فِي النِّفَاقِ وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ جِهَارًا ، حَتَّى إِنَّ الْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ صَارَتْ تُنَالُ بِالنِّفَاقِ ، وَيُذَادُ عَنْهَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ ، وَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
( انْتَهَى بَيَانُ مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ )
( وَكُتِبَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ فِي سَنَةٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ )
( وَتَمَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1350 )