nindex.php?page=treesubj&link=28689الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم :
إن الأمور التي تأتى في الظاهر على غير السنن المعروفة ، أو الخارقة للعادات المألوفة منقولة عن جميع الأمم في جميع العصور نقلا متواترا في جنسه دون أفراد وقائعه وليست كلها خوارق حقيقية ، فإن منها ما له أسباب مجهولة للجمهور ، وإن منها لما هو صناعي يستفاد بتعليم خاص ، وإن منها لما هو من خصائص قوى النفس وتأثير أقوياء الإرادة ، في ضعفائها ويدخل في هذين المكاشفة في بعض الأمور ، والتنويم المغناطيسي ، وشفاء بعض المرضى ولا سيما المصابين بالأمراض العصبية التي يؤثر فيها الاعتقاد والوهم ، ومنها بعض أنواع العمى والفالج ، فإن من الناس من يفقد بصره بمرض يطرأ على أعصاب عينيه وهما صحيحتان تلمعان في وجهه ، أو يغشاهما بياض عارض مع بقاء طبقاتهما صحيحة . وليس منه الكمه والعمى الذي يقع بطمس العينين وغئورهما كالذي أبرأه
المسيح عليه السلام بإذن الله تعالى . وقد بينا هذه الأنواع من الخوارق الصورية في بحث السحر من تفسير سورة الأعراف ، وفي المقالات التي عقدناها للكرامات وأنواعها وتعليلها في المجلد الثاني من المنار وأتممناها في المجلد السادس منه .
إن عوام الشعوب الذين يجهلون تواريخ الأمم ، وما وجد عند كل منها من هذه الغرائب ، وما كشفه العلماء من حيل فيها وعلل ، يغترون بما عندهم منها ، ويخضعون للدجالين والمحتالين الذين ينتحلونها ، ويمكنونهم من أموالهم فيسلبونها ، ويأتمنونهم على أعراضهم فينتهكونها ، ولا سيما إذا كانوا يأتون ما يأتون منها على أنه من كرامات الأولياء وعجائب القديسين ، ويقل تصديق هذا والانقياد لأهله حيث ينتشر تعليم التواريخ وما عند جميع الأمم من ذلك
[ ص: 186 ] على أنه لا يزال كثيرا في جميع بلاد أوربة وأمريكة ، ولعله دون ما في بلاد الشرق ولا سيما القرى وهمج الزنوج وغيرهم .
بيد أن آيات الله الحقيقية التي نسميها
nindex.php?page=treesubj&link=28752المعجزات ، هي فوق هذه الأعمال الصناعية الغريبة لا كسب لأحد من البشر ولا صنع لهم فيها ، وإن ما أيد به رسله منها لم يكن بكسبهم ولا عملهم ولا تأثيرهم حتى ما يكون بدؤه بحركة إرادية يأمرهم الله تعالى بها ، ألم يهد لك كيف خاف
موسى عليه السلام حين تحولت عصاه حية تسعى ، فولى مدبرا ولم يعقب لشدة خوفه منها ، حتى هدأ الله روعه وأمن خوفه ؟ أولم تقرأ قوله
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=17وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ( 8 : 17 ) ؟ أولم تفهم ما أمره الله تعالى أن يجيب مقترحي الآيات عليه من قومه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=93قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) ( 17 : 93 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=50قل إنما الآيات عند الله ) ( 29 : 50 ) وما في معناهما .
جهل هذا الأصل المحكم من عقائد الإسلام أدعياء العلم من سدنة القبور المعبودة وغيرهم فظنوا أن المعجزات والكرامات أمور كسبية كالصناعات العادية ، وأن الأنبياء والصالحين يفعلونها باختيارهم في حياتهم وبعد مماتهم متى شاءوا ، ويغرون الناس بإتيان قبورهم ولو بشد الرحال إليها لدعائهم والاستغاثة بهم عند نزول البلاء والشدائد ، التي يعجزون عن دفعها بكسبهم وكسب أمثالهم من البشر بالأسباب العادية كالأطباء مثلا ، وبالتقرب إليهم بالنذور والقرابين كما كان المشركون يتقربون إلى آلهتهم من الأصنام وغيرها ، وهم يأكلونها سحتا حراما ، ويخبرونهم بأن دين الله تعالى يأمرهم أن يعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم ، حتى قال بعضهم إنهم يخرجون من قبورهم بأجسادهم ويتولون قضاء الحاجات ، وكشف الكربات ، ولو كانت كذلك لما كانت من خوارق العادات ، وقال بعضهم في كتاب مطبوع : إن فلانا من الأقطاب يميت ويحيي ، ويسعد ويشقي ، ويفقر ويغني .
nindex.php?page=treesubj&link=28689الْخَوَارِقُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالصُّورِيَّةُ عِنْدَ الْأُمَمِ :
إِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَأَتَّى فِي الظَّاهِرِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ ، أَوِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا فِي جِنْسِهِ دُونَ أَفْرَادِ وَقَائِعِهِ وَلَيْسَتْ كُلُّهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَهُ أَسْبَابٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجُمْهُورِ ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ صِنَاعِيٌّ يُسْتَفَادُ بِتَعْلِيمٍ خَاصٍّ ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ قُوَى النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ أَقْوِيَاءِ الْإِرَادَةِ ، فِي ضُعَفَائِهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْمُكَاشَفَةُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ، وَالتَّنْوِيمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ ، وَشِفَاءُ بَعْضِ الْمَرْضَى وَلَا سِيَّمَا الْمُصَابِينَ بِالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ وَالْوَهْمُ ، وَمِنْهَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَمَى وَالْفَالِجِ ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْقِدُ بَصَرَهُ بِمَرَضٍ يَطْرَأُ عَلَى أَعْصَابِ عَيْنَيْهِ وَهُمَا صَحِيحَتَانِ تَلْمَعَانِ فِي وَجْهِهِ ، أَوْ يَغْشَاهُمَا بَيَاضٌ عَارِضٌ مَعَ بَقَاءِ طَبَقَاتِهِمَا صَحِيحَةً . وَلَيْسَ مِنْهُ الْكَمَهُ وَالْعَمَى الَّذِي يَقَعُ بِطَمْسِ الْعَيْنَيْنِ وَغُئُورِهِمَا كَالَّذِي أَبْرَأَهُ
الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْخَوَارِقِ الصُّورِيَّةِ فِي بَحْثِ السِّحْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ ، وَفِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي عَقَدْنَاهَا لِلْكَرَامَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَعْلِيلِهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَأَتْمَمْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْهُ .
إِنَّ عَوَامَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ ، وَمَا وُجِدَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِبِ ، وَمَا كَشَفَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حِيَلٍ فِيهَا وَعِلَلٍ ، يَغْتَرُّونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا ، وَيَخْضَعُونَ لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَهَا ، وَيُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَسْلُبُونَهَا ، وَيَأْتَمِنُونَهُمْ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ فَيَنْتَهِكُونَهَا ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَعَجَائِبِ الْقِدِّيسِينَ ، وَيَقِلُّ تَصْدِيقُ هَذَا وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهِ حَيْثُ يَنْتَشِرُ تَعْلِيمُ التَّوَارِيخِ وَمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ
[ ص: 186 ] عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ ، وَلَعَلَّهُ دُونَ مَا فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرَى وَهَمَجِ الزُّنُوجِ وَغَيْرِهِمْ .
بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا
nindex.php?page=treesubj&link=28752الْمُعْجِزَاتِ ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا ، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى ، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا ، حَتَّى هَدَّأَ اللَّهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ
لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=17وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) ( 8 : 17 ) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=93قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ) ( 17 : 93 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=50قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) ( 29 : 50 ) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا .
جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا ، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا ، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا ، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا ، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ : إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي ، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي ، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي .