المقصد الرابع
nindex.php?page=treesubj&link=32463_33527من مقاصد القرآن
( الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثمان )
وحدة الأمة - وحدة الجنس البشري - وحدة الدين - وحدة التشريع بالمساواة في العدل - وحدة الأخوة الروحية والمساواة في التعبد - وحدة الجنسية السياسية الدولية - وحدة القضاء - وحدة اللغة .
جاء الإسلام والبشر أجناس متفرقون ، يتعادون في الأنساب والألوان واللغات والأوطان والأديان ، والمذاهب والمشارب ، والشعوب والقبائل ، والحكومات والسياسات ، يقاتل كل فريق منهم مخالفه في شيء من هذه الروابط البشرية وإن وافقه في البعض الآخر ، فصاح الإسلام بهم صيحة واحدة دعاهم بها إلى الوحدة الإنسانية العامة الجامعة وفرضها عليهم ، ونهاهم عن التفرق والتعادي وحرمه عليهم ، وبيان هذا التفريق ومضاره بالشواهد التاريخية ، وبيان أصول الكتاب الإلهي وسنة خاتم النبيين في الجامعة الإنسانية ، لا يمكن بسطهما إلا بمصنف كبير ، فنكتفي في هذه الخلاصة الاستطرادية في إثبات الوحي المحمدي ، بسرد الأصول الجامعة في هذا الإصلاح الإنساني الداعي إلى جعل الناس ملة واحدة ، ودينا واحدا وشرعا واحدا ، وحكما واحدا ولسانا واحدا ، كما أن جنسهم واحد ، وربهم واحد .
ونبدأ بالأصل الجامع في هذا ونقفي عليه بالأصول والشواهد المفصلة له :
قال الله تعالى في سورة الأنبياء مخاطبا أمة الإسلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=92إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( 21 : 92 ) .
ثم بين لها في سورة ( ( المؤمنون ) ) أنه خاطب جميع النبيين بهذه الوحدة للأمة فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=51ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=52وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) ( 23 : 51 ، 52 ) ولكن كان لكل نبي أمة من الناس هم قومه ، وأما خاتم النبيين فأمته جميع الناس ، وقد فرض الله عليهم الإيمان بجميع رسله وعدم التفرقة بينهم كما تقدم ، فالإيمان بخاتمهم كالإيمان بأولهم وبمن بينهما ، فمثلهم كمثل الملوك أو الولاة
[ ص: 211 ] في الدولة الواحدة ، ومثل اختلاف شرائعهم بنسخ المتأخر منها لما قبله كمثل تعديل القوانين في الدولة الواحدة أيضا إلى أن كمل الدين .
( الأصل الثاني )
nindex.php?page=treesubj&link=33533الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم .
وشاهده العام قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( 49 : 13 ) وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأمة يوم العيد الأكبر
بمنى في حجة الوداع . وهذه الوحدة الإنسانية تتضمن الدعوة إلى التآلف بالتعارف ، وإلى ترك التعادي بالتخالف .
( الأصل الثالث )
nindex.php?page=treesubj&link=28644_28750وحدة الدين باتباع رسول واحد جاء بأصول الدين الفطري الذي جاء به غيره من الرسل ، وأكمل تشريعه بما يوافق جميع البشر ، وشاهده الأعم قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ( 7 : 158 ) ولما كان الإسلام دين الفطرة وحرية الاعتقاد والوجدان جعل الدين اختياريا بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( 2 : 256 ) .
( الأصل الرابع )
nindex.php?page=treesubj&link=33533وحدة التشريع بالمساواة بين الخاضعين لأحكام الإسلام في الحقوق المدنية والتأديبية بالعدل المطلق بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والملك والسوقة ، والغني والفقير ، والقوي والضعيف ، وسنذكر بعض شواهده في إصلاح التشريع فيه .
( الأصل الخامس )
nindex.php?page=treesubj&link=33533الوحدة الدينية بالمساواة بين المؤمنين بهذا الدين ، في أخوته الروحية وعباداته ، وفي الاجتماع للاجتماعي منها كالصلاة ومناسك الحج ، فملوك المسلمين وأمراؤهم وكبار علمائهم يختلطون بالفقراء والعوام في صفوف الصلاة والطواف بالكعبة المشرفة والوقوف
بعرفات وسائر مواطن الحج . لا تجد شعوب الإفرنج المنتسبين إلى
النصرانية يرضون بمثل هذه المساواة المعلومة من دين الإسلام بالضرورة للعمل بها من أول الإسلام إلى اليوم ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=10إنما المؤمنون إخوة ) ( 49 : 10 ) وقال في سياق الكلام عن المشركين المحاربين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=11فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ( 9 : 11 ) .
( الأصل السادس ) وحدة الجنسية السياسية الدولية ، بأن تكون جميع البلاد الخاضعة للحكم الإسلامي متساوية في الحقوق العامة ، إلا حق الإقامة في
جزيرة العرب أو
الحجاز فإنه خاص بالمسلمين ، لأن للحرمين وسياجهما من الجزيرة حكم المعابد والمساجد ، وحكم الإسلام في معابد الملل كلها أنها خاصة بأهلها ولها حرمتها لا يجوز لغير أهلها دخولها بغير إذن منهم ، المسلمون وغيرهم في هذا سواء .
( الأصل السابع )
nindex.php?page=treesubj&link=20268_20216وحدة القضاء واستقلاله ومساواة الناس فيها أمام الشريعة العادية إلا أنه مستثنى منه الأحكام الشخصية الدينية ، فإن الإسلام يراعي فيها حرية العقيدة والوجدان بناء على
[ ص: 212 ] أساسه في ذلك ، فهو يسمح لغير المسلمين في أمور الزوجية أن يتحاكموا إلى علماء ملتهم وإذا تحاكموا إلينا فإننا نحكم بينهم بعدل شريعتنا الناسخة لشرائعهم ، والأصل فيه قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ( 5 : 42 ) وقوله بعد آيات : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) ( 5 : 48 ) .
( الأصل الثامن ) وحدة اللغة ، ولا يمكن أن يتم الاتحاد والإخاء بين الناس ، وصيرورة الشعوب الكثيرة أمة واحدة إلا بوحدة اللغة . ومازال الحكماء الباحثون في مصالح البشر العامة يتمنون لو يكون لهم لغة واحدة مشتركة ، يتعاونون بها على التعارف والتآلف ومناهج التعليم والآداب والاشتراك في العلوم والفنون والمعاملات الدنيوية ، وهذه الأمنية قد حققها الإسلام بجعل لغة الدين والتشريع والحكم لغة لجميع المؤمنين به والخاضعين لشريعته ، إذ يكون المؤمنون مسوقين باعتقادهم ووجدانهم إلى معرفة لغة كتاب الله وسنة رسوله ، لفهمهما والتعبد بهما والاتحاد بإخوتهم فيهما ، وهما مناط سيادتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، وبذلك كرر في القرآن بيان كونه كتابا عربيا وحكما عربيا ، وكرر الأمر بتدبره والتفقه فيه والاتعاظ والتأدب به ، وأما غير المؤمنين فيتعلمون لغة الشرع الذي يخضعون لحكمه ، والحكومة التي يتبعونها لمصالحهم الدنيوية كما هي عادة البشر في ذلك ، وكذلك كان الأمر في الفتوحات الإسلامية العربية كلها .
وقد بينت من قبل وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=18480تعلم اللغة العربية في دين الإسلام ، وكونه مجمعا عليه بين المسلمين كما قرره الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - في رسالته ، وقد جرى عليه العمل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ، ثم خلفاء
الأمويين والعباسيين ، إلى أن كثر الأعاجم وقل العلم وغلب الجهل ، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه في العبادات من القرآن والأذكار ( فراجع ذلك في ص 264 وما بعدها ) ج 9 ط الهيئة .
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينكر على المسلمين كل نوع من أنواع التفرق ، الذي ينافي وحدتهم وجعلهم أمة واحدة كالجسد الواحد ؛ كما شبههم بقوله ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920461مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ) رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ومسلم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير - رضي الله عنه - وكان يخص بمقته وإنكاره التفرق في الجنس النسبي أو اللغة ، أما الأول فمشهور ، وأما الثاني فيجمعه مع الأول الشاهد الآتي .
روى
nindex.php?page=showalam&ids=13359الحافظ ابن عساكر بسنده إلى
مالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة بن عبد الرحمن قال :
[ ص: 213 ] جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب الرومي ، nindex.php?page=showalam&ids=115وبلال الحبشي ، فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ( يعني هذا المنافق بالرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه ، فما الذي يدعو الفارسي والرومي والحبشي إلى نصره ؟ ) .
فقام إليه nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فأخذ بتلبيبه ( أي بما على لببه ونحره من الثياب ) ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بمقالته ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودي : إن الصلاة جامعة - وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( يا أيها الناس إن الرب واحد ، والأب واحد ، وإن الدين واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم ، وإنما هي اللسان ، فمن تكلم بالعربية فهو عربي ) ) فقام معاذ ، فقال : فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال : ( ( دعه إلى النار ) ) فكان
قيس ممن ارتد في الردة فقتل .
أرأيت لو ظل المسلمون على هذه التربية المحمدية أكان وقع بينهم من الشقاق والحروب باختلاف الجنس واللغة كل ما وقع وأدى بهم إلى هذا الضعف العام ؟ أرأيت لو حافظوا على هذه الأخوة الإسلامية ، أكانت هذه الفئة من ملاحدة الترك تجد سبيلا لاجتثاث هذه الدوحة الباسقة من جنة حكم الإسلام ، وامتلاخ هذا السيف الصارم من غمده ، والحيلولة بينه وبين كتاب الله المعصوم المنزل من عند الله باللغة العربية ، وسنة رسوله المصلح لشعوب البشر وهي بالعربية ، لأجل تكوين هذا الشعب وما أدغم ويدغم فيه من الشعوب تكوينا جديدا ، برابطة لغة تخلق خلقا جديدا ، لأجل أن يلحق بالشعوب الأوربية دعيا ، كما يلصق الولد بغير أبيه إلصاقا فريا ، فيقال : إن رجلا عظيما جدد أو أوجد شعبا ولغة ودولة ودينا ؟ هيهات هيهات لما يبغون .
لقد كان هذا الشعب ( الترك ) قائما باسم الإسلام على رياسة روحية ، يدين لها أو بها زهاء أربعمائة مليون من البشر ، ولو أوتي من العلم والحكمة ما يحسن به القيامة ، ومن الحزم والعزم ما يعزز به القيادة ، ومن النظام ما يحكم به السياسة ، لأمكنه أن يسوس بها الشرق ثم يسود بنفوذها الغرب ، كما كان يقصد
نابليون الكبير لو تم له البقاء في
مصر .
يعترض بعض أولي النظر القصير والبصر الكليل على توحيد اللغة في الشعوب المختلفة
[ ص: 214 ] بأنه خلاف طبيعية البشر ، ويرد عليهم بأن توحيد الدين أبعد من توحيد اللغة عن طبيعة البشر إن أريد بالبشر جميع أفرادهم ، وأن الحكماء ، ما زالوا يسعون لجمع البشر على لغة واحدة مشتركة مع علمهم أن ترقي بعض اللغات بترقي أهلها في العلوم والفنون والسياسة والقوة يستحيل معه أن يرغبوا عنها إلى غيرها ، ولم يسع أحد منهم لجمعهم على دين واحد ، وأن القرآن الذي شرع توحيد الدين مع شرعه ولغته لجميع البشر ، قد علمنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28661_28640حكمة الله تعالى في خلق الإنسان تأبى أن يكون الناس كلهم أمة واحدة تدين بدين واحد (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ( 11 : 118 ، 119 ) وإنما دعاهم إلى هذه الرحمة ليقل الشقاء الذي يثيره الخلاف فيهم - هذا الخلاف الذي جعل أعلم شعوب الأرض وأرقاهم في العمران يبذلون في هذا العهد أكثر ما تستغله شعوبهم من ثروة العالم في سبيل الحروب التي تنذر عمرانهم بالخراب والدمار .
دعا الإسلام البشر كلهم إلى دين واحد يتضمن توحيد اللغة وغيرها من مقومات الأمم ، فكانوا يدخلون فيه أفواجا ، حتى امتد في قرن واحد ما بين المحيط الغربي إلى الهند ، ولولا ما طرأ عليه من الابتداع ، وعلى حكوماته من الظلم والاستبداد ، وعلى شعوبه من الجهل والفساد ، والتفرق بالاختلاف ، لدخل فيه أكثر البشر ، ولصارت لغته لغة لكل من دخل في حظيرته من الأمم ، فمن غرائزهم اختيار الأفضل إذا عرفوه .
قال أحد كبار علماء الألمان في
الأستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء
مكة : إنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب
nindex.php?page=showalam&ids=33لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا (
برلين ) قيل له : لماذا ؟ قال : لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب ، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كله ، ولكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوربة عربا ومسلمين .
فهل يعقل أن يكون تقرير هذه الأصول التي توحد الأمم والشعوب ، وتؤلف بينها بما يجمع كلمتهم عليها بالوازع النفسي من الوحي النفسي الذي نبع من نفس
محمد - صلى الله عليه وسلم - الأمي في سن الكهولة ففاق بها جميع الأنبياء والحكماء ، أم الأقرب إلى العقل أن تكون بوحي الله تعالى أفاضه عليه ؟ ! .
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ
nindex.php?page=treesubj&link=32463_33527مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
( الْإِصْلَاحُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِنْسَانِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ )
وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ .
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْبَشَرُ أَجْنَاسٌ مُتَفَرِّقُونَ ، يَتَعَادَوْنَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَدْيَانِ ، وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ، وَالْحُكُومَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ ، يُقَاتِلُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ ، فَصَاحَ الْإِسْلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً دَعَاهُمْ بِهَا إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِمْ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ ، وَبَيَانُ هَذَا التَّفْرِيقِ وَمَضَارِّهِ بِالشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ ، وَبَيَانُ أُصُولِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَسُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْجَامِعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، لَا يُمْكِنُ بَسْطُهُمَا إِلَّا بِمُصَنَّفٍ كَبِيرٍ ، فَنَكْتَفِي فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ ، بِسَرْدِ الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ الدَّاعِي إِلَى جَعْلِ النَّاسِ مِلَّةً وَاحِدَةً ، وَدِينًا وَاحِدًا وَشَرْعًا وَاحِدًا ، وَحُكْمًا وَاحِدًا وَلِسَانًا وَاحِدًا ، كَمَا أَنَّ جِنْسَهُمْ وَاحِدٌ ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ .
وَنَبْدَأُ بِالْأَصْلِ الْجَامِعِ فِي هَذَا وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ وَالشَّوَاهِدِ الْمُفَصِّلَةِ لَهُ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَاطِبًا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=92إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( 21 : 92 ) .
ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا فِي سُورَةِ ( ( الْمُؤْمِنُونَ ) ) أَنَّهُ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=51يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=52وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) ( 23 : 51 ، 52 ) وَلَكِنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ قَوْمُهُ ، وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَمَّتُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَعَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْإِيمَانُ بِخَاتَمِهِمْ كَالْإِيمَانِ بِأَوَّلِهِمْ وَبِمَنْ بَيْنَهُمَا ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ أَوِ الْوُلَاةِ
[ ص: 211 ] فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَمَثَلُ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ بِنَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا لِمَا قَبْلَهُ كَمَثَلِ تَعْدِيلِ الْقَوَانِينِ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْضًا إِلَى أَنْ كَمَلَ الدِّينُ .
( الْأَصْلُ الثَّانِي )
nindex.php?page=treesubj&link=33533الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَشَرِ وَشُعُوبِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ .
وَشَاهِدُهُ الْعَامُّ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( 49 : 13 ) وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ
بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . وَهَذِهِ الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّآلُفِ بِالتَّعَارُفِ ، وَإِلَى تَرْكِ التَّعَادِي بِالتَّخَالُفِ .
( الْأَصْلُ الثَّالِثُ )
nindex.php?page=treesubj&link=28644_28750وَحْدَةُ الدِّينِ بِاتِّبَاعِ رَسُولٍ وَاحِدٍ جَاءَ بِأُصُولِ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ ، وَأَكْمَلَ تَشْرِيعَهُ بِمَا يُوَافِقُ جَمِيعَ الْبَشَرِ ، وَشَاهِدُهُ الْأَعَمُّ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( 7 : 158 ) وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ جُعِلَ الدِّينُ اخْتِيَارِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( 2 : 256 ) .
( الْأَصْلُ الرَّابِعُ )
nindex.php?page=treesubj&link=33533وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ .
( الْأَصْلُ الْخَامِسُ )
nindex.php?page=treesubj&link=33533الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ
بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ . لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى
النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=10إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( 49 : 10 ) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=11فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ( 9 : 11 ) .
( الْأَصْلُ السَّادِسُ ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ
الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ .
( الْأَصْلُ السَّابِعُ )
nindex.php?page=treesubj&link=20268_20216وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى
[ ص: 212 ] أَسَاسِهِ فِي ذَلِكَ ، فَهُوَ يَسْمَحُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى عُلَمَاءِ مِلَّتِهِمْ وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِ شَرِيعَتِنَا النَّاسِخَةِ لِشَرَائِعِهِمْ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( 5 : 42 ) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) ( 5 : 48 ) .
( الْأَصْلُ الثَّامِنُ ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ . وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا ، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا .
وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ
nindex.php?page=treesubj&link=18480تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ ، ثُمَّ خُلَفَاءِ
الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ ( فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص 264 وَمَا بَعْدَهَا ) ج 9 ط الْهَيْئَةِ .
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920461مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) ) رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=114النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي .
رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13359الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى
مَالِكٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزُّهْرِيِّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12031أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ :
[ ص: 213 ] جَاءَ قَيْسُ بْنُ مُطَاطِيَّةَ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا nindex.php?page=showalam&ids=23سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=52وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ ، nindex.php?page=showalam&ids=115وَبِلَالٌ الْحَبَشِيُّ ، فَقَالَ : هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا ( يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ ؟ ) .
فَقَامَ إِلَيْهِ nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ ( أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ : إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ ) ) فَقَامَ مُعَاذٌ ، فَقَالَ : فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( ( دَعْهُ إِلَى النَّارِ ) ) فَكَانَ
قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ .
أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا ، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا ، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا ، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا ، فَيُقَالُ : إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ .
لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ ( التُّرْكُ ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ
نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي
مِصْرَ .
يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ
[ ص: 214 ] بِأَنَّهُ خِلَافُ طَبِيعِيَّةِ الْبَشَرِ ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الدِّينِ أَبَعْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللُّغَةِ عَنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا ، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28661_28640حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ( 11 : 118 ، 119 ) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ - هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ .
دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا ، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ .
قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي
الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ
مَكَّةَ : إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=33لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (
بَرْلِينْ ) قِيلَ لَهُ : لِمَاذَا ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ .
فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ ؟ ! .