[ ص: 215 ] المقصد الخامس من مقاصد القرآن
( تقرير
nindex.php?page=treesubj&link=28640مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات )
( ونلخص أهمها بالإجمال في عشر جمل )
( 1 ) كونه وسطا جامعا لحقوق الروح والجسد ومصالح الدنيا والآخرة . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ( 2 : 143 ) الآية . وقد بينا في تفسيرها أن المسلمين وسط بين الذين تغلب عليهم الحظوظ الجسدية والمنافع المادية كاليهود ، والذين تغلب عليهم التعاليم الروحية ، وتعذيب الجسد وإذلال النفس والزهد
كالهندوس والنصارى ، وإن خالف هذه التعاليم أكثرهم .
( 2 ) كون غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بتزكية النفس بالإيمان الصحيح ، ومعرفة الله والعمل الصالح ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، لا بمجرد الاعتقاد والاتكال ، ولا بالشفاعات وخوارق العادات ، وتقدم بيانه .
( 3 ) كون الغرض منه التعارف والتأليف بين البشر ، لا زيادة التفريق والاختلاف ، وتقدمت شواهده في كونه عاما مكملا ومتمما لدين الله على ألسنة رسله في الكلام على آية القرآن وعموم بعثة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الكلام على الرسل من المقصد الثاني .
وإنما تفصيل أصوله في تلك الوحدات الثمان التي بيناها في المقصد الرابع .
( 4 ) كونه يسرا لا حرج فيه ولا عسر ولا إرهاق ولا إعنات ، قال الله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 2 : 286 ) وقال بلغت حكمته : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=220ولو شاء الله لأعنتكم ) ( 2 : 220 ) وقال عظمت رأفته : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ( 2 : 185 ) وقال جلت منته : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ( 22 : 78 ) وقال عمت رحمته : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) ( 5 : 6 ) .
ومن فروع هذا الأصل ، أن
nindex.php?page=treesubj&link=20716الواجب الذي يشق على المكلف أداؤه ويحرجه يسقط عنه إلى بدل أو مطلقا ، كالمريض الذي يرجى برؤه ، والذي لا يرجى برؤه ومثله الشيخ الهرم - الأول يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر ، والثاني لا يقضي بل يكفر بإطعام مسكين إذا قدر . وأما المحرم فيباح للضرورة بنص القرآن ، وإن كان تحريمه أو النهي عنه لسد ذريعة الفساد فيباح للحاجة ، كما بيناه في تفسير آيات الربا وآيات الصيام ، وآية محرمات الطعام .
وقد بينا مسألة يسر الإسلام العام بالتفصيل في تفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 )
[ ص: 216 ] من الجزء السابع وجمع في رسالة خاصة .
( 5 ) منع
nindex.php?page=treesubj&link=28642_28641الغلو في الدين وإبطال جعله تعذيبا للنفس ، بإباحة الطيبات والزينة بدون إسراف ولا كبرياء ، وقد فصلنا ذلك في تفسير الآيات الواردة في الأمر بالأكل من الطيبات في سورة البقرة وسورة المائدة وفي تفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) ( 7 : 31 و 32 ) وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=171ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) وهو في ( 4 : 171 ) و ( 5 : 77 ) وفي هذا النهي اعتبار للمسلمين ؛ لأنهم أولى بالانتهاء عن الغلو بأن دينهم دين الرحمة واليسر . والأحاديث الصحيحة في نهي المسلمين عن الغلو في العبادة وعن ترك الطيبات وعن الرهبانية والخصاء مبينة لهذه الآيات ، وهي مصداق تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالحنيفية السمحة .
( 6 ) قلة تكاليفه وسهولة فهمها ، وقد كان الأعرابي يجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية فيسلم ، فيعلمه ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد ، فيعاهده على العمل به فيقول : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920463أفلح الأعرابي إن صدق ) ) وكان هذا أعظم أسباب قبول الناس له . ولكن الفقهاء أكثروا التكاليف بآرائهم الاجتهادية حتى صار العلم بها متعسرا ، والعمل بها متعذرا .
( 7 ) انقسام التكليف إلى عزائم ورخص ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يرجح جانب الرخص ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر يرجح العزائم . والناس درجات في التقصير والتشمير والاعتدال ، فيوافق البدوي الساذج والفيلسوف الحكيم وما بينهما من الطبقات ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) ( 35 : 32 ) .
( 8 ) نصوص الكتاب وهدي السنة مراعى فيهما درجات البشر في العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها ، فالقطعي منها هو العام ، وغير القطعي تتفاوت فيه الأفهام ، فيأخذ كل أحد منه بما أداه إليه اجتهاده ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقر كل أحد من أصحابه فيه على اجتهاده ، كما فعل عندما نزلت آية البقرة في الخمر والميسر الدالة على تحريمهما دلالة ظنية فتركهما بعضهم دون بعض ، وأقر كلا على اجتهاده إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعي . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=43وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) ( 29 : 43 ) .
وبيان ذلك أن الفرائض الدينية العامة فيه والمحرمات الدينية العامة لا يثبتان إلا بنص قطعي يفهمه كل أحد ، والأول مذهب الحنفية وأما الثاني وهو التحريم فهو مذهب جمهور السلف
[ ص: 217 ] أيضا ، وأما الآيات الظنية الدلالة ، والأحاديث الأحادية الظنية الرواية أو الدلالة ، فهي موكولة إلى اجتهاد من يثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصية ، وإلى اجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائية والمسائل السياسية ، وقد بينا هذا في مواضع من التفسير والمنار .
( 9 )
nindex.php?page=treesubj&link=28266معاملة الناس بظواهرهم وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى ، فليس لأحد من الحكام ولا الرؤساء الرسميين ولا لخليفة المسلمين أن يعاقب أحدا ولا أن يحاسبه على ما يعتقد أو يضمر في قلبه ، وإنما العقوبات على المخالفات العملية للأحكام العامة المتعلقة بحقوق الناس ومصالحهم وقد فصلنا هذا في خلاصة تفسير سورة : براءة ( ( التوبة ) ) .
( 10 )
nindex.php?page=treesubj&link=28750مدار العبادات كلها على اتباع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر ، فليس لأحد فيها رأي شخصي ولا رياسة ، ومدارها في الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحة النية ، والآيات والأحاديث في الأمرين كثيرة .
[ ص: 215 ] الْمَقْصِدُ الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
( تَقْرِيرُ
nindex.php?page=treesubj&link=28640مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ )
( وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ )
( 1 ) كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ( 2 : 143 ) الْآيَةَ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ
كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى ، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ .
( 2 ) كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ ، وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
( 3 ) كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي .
وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ .
( 4 ) كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) ( 2 : 286 ) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=220وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) ( 2 : 220 ) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( 2 : 185 ) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( 22 : 78 ) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) ( 5 : 6 ) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ ، أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20716الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا ، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ - الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ . وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ( 5 : 101 )
[ ص: 216 ] مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَجُمِعَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ .
( 5 ) مَنْعُ
nindex.php?page=treesubj&link=28642_28641الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( 7 : 31 و 32 ) وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=171يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) وَهُوَ فِي ( 4 : 171 ) وَ ( 5 : 77 ) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ .
( 6 ) قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا ، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920463أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ ) ) وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ . وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا ، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا .
( 7 ) انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ ، وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ . وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ وَالِاعْتِدَالِ ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ( 35 : 32 ) .
( 8 ) نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا ، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=43وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) ( 29 : 43 ) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ
[ ص: 217 ] أَيْضًا ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الظَّنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُحَادِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ الرِّوَايَةِ أَوِ الدَّلَالَةِ ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ .
( 9 )
nindex.php?page=treesubj&link=28266مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ : بَرَاءَةٌ ( ( التَّوْبَةِ ) ) .
( 10 )
nindex.php?page=treesubj&link=28750مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ .