المقصد السادس من
nindex.php?page=treesubj&link=29568مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسي الدولي
( بيان حكم الإسلام السياسي الدولي : نوعه وأساسه وأصوله العامة )
الإسلام دين هداية وسيادة وسياسة وحكم ؛ لأن ما جاء به من إصلاح البشر في جميع شئونهم الدينية ومصالحهم الاجتماعية والقضائية يتوقف على السيادة والقوة والحكم بالعدل وإقامة الحق ، والاستعداد لحماية الدين والدولة ، وفيه أصول وقواعد .
(
nindex.php?page=treesubj&link=33532_7633القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامي )
الحكم في الإسلام للأمة ، وشكله شورى ، ورئيسه الإمام الأعظم أو ( الخليفة ) منفذ لشرعه ، والأمة هي التي تملك نصبه وعزله ، قال الله تعالى في صفات المؤمنين (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=38وأمرهم شورى بينهم ) ( 42 : 38 ) وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159وشاورهم في الأمر ) ( 3 : 159 ) وكان - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في المصالح العامة من سياسية وحربية ومالية مما لا نص فيه في كتاب الله تعالى ، وقد بينت في تفسيرها حكمة ترك الشورى لاجتهاد الأمة .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) ( 4 : 159 ) وأولو الأمر هم أهل الحل والعقد والرأي الحصيف في مصالحها ، الذين تثق بهم الأمة وتتبعهم فيما يقرونه ، بدليل قوله تعالى بعد تلك الآية من سورتها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 : 83 ) فأولو الأمر الذين كانوا مع الرسول ، وكان
[ ص: 218 ] الأمر يرد إليه وإليهم في الشئون العامة للأمة من الأمن والخوف وغيرهما ، هم الذين كان - صلى الله عليه وسلم - يستشيرهم في الأمور الدقيقة والسرية المهمة . وكان يستشير جمهور المسلمين فيما لهم به علاقة عامة ويعمل برأي الأكثر وإن خالف رأيه ، كاستشارتهم في غزوة أحد في أحد الأمرين : الحصار في المدينة أو الخروج إلى أحد للقاء المشركين فيه . وكان رأيه ورأي بعض كبار الأمة الأول ، ورأي الجمهور الثاني ، فنفذ رأي الأكثر ، ولكنه استشار في مسألة أسرى بدر خواص أولي الأمر وعمل برأي أبي بكر ، كما فصلناه في تفسير سورة الأنفال .
وقد بينت في تفسير الآية الأولى ( 4 : 59 ) ما تدل عليه من قواعد الحكم الإسلامي وكونه أفضل من الحكم النيابي الذي عليه دول هذا العصر .
ومن الدلائل الكثيرة على أن التشريع القضائي والسياسي هو حق الأمة المعبر عنها في الحديث بالجماعة ، أن القرآن يخاطب بها جماعة المؤمنين في هاتين الآيتين الخاصتين بالحكم العام والدولة وفي سائر الأحكام العامة ، كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ( 9 : 1 ) وما يليها من الآيات المتعلقة بالمعاهدات والحرب والصلح ، وما في معناها من سورة الأنفال والبقرة وآل عمران ومثل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) ( 49 : 9 ) وكذلك خطابه لهم في أحكام الأموال كالغنائم وتخميسها وقسمتها وأحكام النساء وغيرها ( وقد بينا هذا كله في مواضعه من التفسير ) .
وقد صرح كبار النظار من علماء الأصول بأن
nindex.php?page=treesubj&link=7657_7653السلطة في الإسلام للأمة يتولاها أهل الحل والعقد الذين ينصبون عليها الخلفاء والأئمة ، ويعزلونهم ، إذا اقتضت المصلحة عزلهم قال الإمام
الرازي في تعريف الخلافة : هي رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص . وقال في القيد الأخير ( الذي زاده على من قبله ) هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه . قال العلامة
السعد التفتازاني في شرح المقاصد عند ذكر هذا التعريف وما علل به القيد الأخير : وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ، واعتبر رئاستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة . اهـ ، وقد فصلنا مسألة سلطة الأمة في كتابنا ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) .
فهذه القاعدة الأساسية لدولة الإسلام أعظم إصلاح سياسي للبشر ، قررها القرآن في عصر
[ ص: 219 ] كانت فيه جميع الأمم مرهقة بحكومات استبدادية استعبدتها في أمور دينها ودنياها ، وكان أول منقذ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يقطع بأمر من أمور السياسة والإدارة العامة للأمة إلا باستشارة أهل الرأي والمكانة في الأمة ؛ ليكون قدوة لمن بعده .
ثم جرى على ذلك الخلفاء الراشدون ، فقال الخليفة الأول
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في أول خطبة خطبها على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب مبايعته : أما بعد ، فقد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا زغت فقوموني . وقال الخليفة الثاني
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من رأى منكم في عوجا فليقومه فقال له أعرابي : لو رأينا فيك عوجا لقومناه بسيوفنا . فقال : الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم عوج عمر بسيفه . وكان يجمع أهل العلم والرأي من الصحابة ويستشيرهم في كل مسألة ليس فيها نص من كتاب الله ولا سنة أو قضاء من رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الثالث
عثمان - رضي الله عنه - أمري لأمركم تبع ، وكذلك كان عمل الخليفة الرابع
علي المرتضى - رضي الله عنه - وكرم وجهه ، ولا أذكر له كلمة مختصرة مثل هذه الكلمات على المنبر .
وإذا أوجب الله المشاورة على رسوله فغيره أولى ، ولا يصح أن يكون حكم الإسلام أدنى من حكم ملكة سبأ العربية فقد كانت مقيدة بالشورى ، ووجد ذلك في أمم أخرى ، وإن جهل ذلك من جهله من الفقهاء .
ولكن ملوك المسلمين زاغوا بعد ذلك عن هذا الصراط المستقيم إلا قليلا منهم وشايعهم علماء الرسوم المنافقون ، وخطباء الفتنة الجاهلون ، حتى صار المسلمون يجهلون هذه القاعدة الأساسية لحكومة دينهم ، وكان من حسن حظ الإفرنج في حربهم الصليبية أن كان سلطان المسلمين الذي نصره الله عليهم يقتفي في حكمه أثر الخلفاء الراشدين
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ، وهو
nindex.php?page=showalam&ids=16236صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي قال لأحد رجاله المتميزين عنده وقد استعداه على رجل غشه : ( ( ما عسى أن أصنع لك ، وللمسلمين قاض يحكم بينهم ، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة وأوامره ونواهيه ممتثلة ، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته ، فالحق يقضي لك أو عليك ) ) ومعنى عبارة السلطان : أنه ليس إلا منفذا لحكم الشرع - كالشحنة وهو صاحب الشرطة - وأن القضاة مستقلون بالحكم لأنهم يحكمون بالشرع العادل المساوي بين الناس . وقد اقتبس
الصليبيون منه طريقة حكمه ، ثم درسوا تاريخ الإسلام فعرفوا منه ما جهله أكثر المسلمين المتأخرين ، حتى أسسوا حكم دولهم على قاعدة سلطة الأمة التي جاء بها الإسلام وصاروا يدعونها لأنفسهم ، ويعيبون الحكومات الإسلامية باستبدادها ، ثم يجعل الإسلام نفسه سبب هذا الاستبداد والحكم الشخصي ، وصار المسلمون يصدقونهم ، ويرى المشتغلون
[ ص: 220 ] بالسياسة وعلم الحقوق منهم أنه لا صلاح لحكوماتهم إلا بتقليدهم ، فكان هذا من أسباب ضياع أعظم مزايا الإسلام السياسية التشريعية وذهاب أكثر ملكه .
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29568مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ
( بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ : نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ )
الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ .
(
nindex.php?page=treesubj&link=33532_7633الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ )
الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ ، وَشَكْلُهُ شُورَى ، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ ( الْخَلِيفَةُ ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=38وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) ( 42 : 38 ) وَقَالَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ( 3 : 159 ) وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) ( 4 : 159 ) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا ، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ( 4 : 83 ) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ ، وَكَانَ
[ ص: 218 ] الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا ، هُمُ الَّذِينَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ . وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ . وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى ( 4 : 59 ) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ .
وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ ، كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( 9 : 1 ) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( 49 : 9 ) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا ( وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ ) .
وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=7657_7653السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ ، وَيَعْزِلُونَهُمْ ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ
الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ : هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ . وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ ( الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ . قَالَ الْعَلَّامَةُ
السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ : وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ . اهـ ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا ( الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى ) .
فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ ، قَرَّرَهَا الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ
[ ص: 219 ] كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا ، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ .
ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي ، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي . وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ : لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ . وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَالَ الثَّالِثُ
عُثْمَانُ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ
عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ .
وَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى ، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ .
وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=16673وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَهُوَ
nindex.php?page=showalam&ids=16236صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ : ( ( مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ) ) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ : أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ . وَقَدِ اقْتَبَسَ
الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا ، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ
[ ص: 220 ] بِالسِّيَاسَةِ وَعِلْمِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِحُكُومَاتِهِمْ إِلَّا بِتَقْلِيدِهِمْ ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِ أَعْظَمِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيَّةِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَذَهَابِ أَكْثَرِ مُلْكِهِ .