المقصد الثامن من فقه القرآن
(
nindex.php?page=treesubj&link=25869_7919إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر )
التنازع بين الأحياء في مرافق المعيشة ووسائل المال والجاه غريزة من غرائز الحياة ، وإفضاء التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات والأقوام ، سنة من سنن الاجتماع ، أو ضرورة من ضروراته ، قد تكون وسيلة من وسائل العمران ، فإن كان التنازع بين الحق والباطل كان الفلج للحق وإن كان بين العلم والجهل كان الظفر للعلم ، وإن كان بين النظام والاختلال كان النصر للنظام وإن كان بين الصلاح والفساد كان الغلب للصلاح ، كما قال تعالى في الحق والباطل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) ( 21 : 18 ) وقال في بيان نتيجة المثل الذي ضربه لهما : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( 13 : 17 ) .
وأما التنازع والتعادي والتقاتل على الشهوات الباطلة والسلطة الظالمة ، واستبعاد القوي للضعيف ، والاستكبار والعلو في الأرض ؛ فإن ضرره كبير ، وشره مستطير ، ويزيد ضراوة البشر بسفك الدماء ، ويورثهم الحقد ويؤرث بينهم العداوة والبغضاء ، وقد اشتدت هذه المفاسد
[ ص: 228 ] في هذا الزمان ، حتى خيف أن تقضي على هذا العمران العظيم في وقت قصير ، بما استحدثه العلم الواسع من وسائل التخريب والتدمير ، كالغازات السامة ومواد الهدم والتحريق تقذفها الطيارات المحلقة في جو السماء ، على المدائن المكتظة بالألوف من الرجال والنساء والأطفال ، فتقتلهم في ساعة واحدة أو ساعات معدودة .
وقد حارت الدول الحربية في تلافي هذا الخطر ، وترى دهاقين السياسة في كل منها يتفاوضون مع أقرانهم لوضع نظام لتقرير السلام ، ودرء مفاسد الخصام ، بمعاهدات يعقدونها ، وأيمان يتقاسمونها ، ثم ينفضون خائبين ، أو ينقضون ما أبرموا متأولين ، ويعودون إلى مثله مخادعين .
وقد بين الله تعالى في كتابه سبب هذه الخيبة بما وجدنا مصداقه في هذه الدول بأظهر مما كان في عرب الجاهلية الذين نزل هذا البيان في عهدهم ، كأنه نزل في هؤلاء الإفرنج دون غيرهم ، وهو من عجائب القرآن في لفظه ومعناه . وذلك قوله تعالى بعد الأمر بالإيفاء بعهده والنهي عن نقضه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=92ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ) ( 16 : 92 ) والمعنى : لا تكونوا في نقض عهودكم والعود إلى تجديدها كالمرأة الحمقاء التي تنقض غزلها من بعد قوة إبرامه نقض أنكاث ( وهو جمع نكث بالكسر : ما نقض ليغزل مرة أخرى ) حال كونكم تتخذون عهودكم دخلا بينكم ( والدخل بالتحريك الفساد والغش الخفي الذي يدخل في الشيء وما هو منه ) لأجل أن تكون أمة أربى من أمة أخرى رجالا ، وأكثر ربحا ومالا ، وأقوى أسنة ونصالا .
والمراد : أن معاهدات الصلح والاتفاق بين الأمم ، يجب أن يقصد بها الإصلاح والعدل والمساواة ، فتبنى على الإخلاص دون الدخل والدغل الذي يقصد به ما ذكر .
ولو طلبوا المخرج والسلامة من هذا الخطر لوجدوهما في دين الإسلام فهو دين الحق والعدل والسلام ، وهاك بعض الشواهد على هذا من قواعد الحرب والسلم في آيات القرآن .
الْمَقْصِدُ الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(
nindex.php?page=treesubj&link=25869_7919إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ )
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ ، فَإِنْ كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ( 21 : 18 ) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ( 13 : 17 ) .
وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ
[ ص: 228 ] فِي هَذَا الزَّمَانِ ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ .
وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا ، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا ، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ . وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=92وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) ( 16 : 92 ) وَالْمَعْنَى : لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ ( وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ : مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى ) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ ( وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا ، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا ، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا .
وَالْمُرَادُ : أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ .
وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ .