(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) .
هذه الآية في دحض شبهتهم على عبادة غير الله تعالى وهي الشفاعة ، وتقدم في الآية الثالثة بطلانها وإقامة الحجة على وجوب عبادة الرب الخالق المدبر وحده ، وصرح هنا بإسناد هذا الشرك إليهم وباحتجاجهم عليه بالشفاعة . ثم لقن رسوله الحجة على بطلان هذا الاحتجاج فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18nindex.php?page=treesubj&link=28981_28673_28705ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) الكلام معطوف على ما قبله من بيان
[ ص: 265 ] شركهم وسخافتهم فيه ، ومكابرتهم في جحود الحق الذي دعاهم إليه الوحي ، أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها من دون الله أي غير الله ، والمعنى : أنهم يعبدونها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته وحده ، لا أنهم يعبدونها وحدها ، فما معنى كونهم مشركين إلا أنهم يعبدونه ويعبدون غيره (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=106وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ( 12 : 106 ) وفي وصفها بأنها لا تضرهم ولا تنفعهم إيذان بسبب عبادتها وضلالهم فيه ، وتذكير بأنه هو القادر على نفع من يعبده ، وضر من يكفره ، ويشرك بعبادته غيره في الدنيا والآخرة .
وأصل غريزة العبادة الفطرية في البشر ، في سذاجتهم التي لا تلقين فيها لحق ولا باطل ، هي الشعور الباطن بأن في الوجود قوة غيبية وسلطانا علويا على التصرف في الخلق بالنفع لمن شاء ، وإيقاع الضر على من شاء وكشفه بعد وقوعه عمن شاء ، غير مقيد في ذلك بسبب من الأسباب المسخرة للناس ، فمن اطلع على تواريخ البشر في كل طور من أطوار حياتهم البدوية والحضرية ، يظهر له أن هذا هو أصل التدين الغريزي فيهم ، وأما صور التعبد وتسمية المعبودات فمنها ما هو من اجتهادهم ، ومنها ما هو من تلقين دعاة الدين فيهم من الأنبياء وغيرهم . فكل ما عبد من دون الله بالرأي والاجتهاد ، فإنما عبده من عبده لشبهة فهم منها قدرته على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب وقد بينا ذلك في مواضع أخرى أولها تفسير العبادة من سورة الفاتحة ، وأوسطها وأبسطها تفسير قصة
إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه
آزر من سورة الأنعام ، ومن آخرها في تفسير هذه السورة ما جاء في بيان الركن الأول من أركان الدين ، وفي الكلام على الخوارق من بحث الوحي الاستطرادي .
فليس المراد من كون هذه المعبودات لا تضرهم ولا تنفعهم - هو بيان عجزها عن النفع والضر ؛ لأنها إما جمادات مصنوعة كالأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب ، والأصنام المتخذة من المعادن وكذا الحجارة ، أو غير مصنوعة كاللات وهي صخرة كانت
بالطائف يلت عليها السويق ثم عظمت حتى عبدت ، وإما أشجار كالعزى معبودة
قريش ، والشجرة التي قطعها الشيخ
محمد عبد الوهاب في
نجد ، وشجرة المنضورة التي يقصدها النساء في
مصر لأجل الحبل ، فإن أكثر الأوثان والأصنام قد وضعت ذكرى لبعض الصالحين من البشر كما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - في أصنام قوم
نوح ، ثم انتقلت عبادتهم إلى العرب ، وكانوا يعتقدون أن فيها أرواحا من الجن كما روي في حديث قطع شجرة العزى أو شجراتها الثلاث ، إذ ظهرت عند قطعها
nindex.php?page=showalam&ids=22لخالد بن الوليد امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها ، كانوا يزعمون أنها جنية ، فأرادت أن تواثبه وتخيفه فقتلها ، فهي كالقبور التي تشرف وتجصص ويوضع عليها الستور وتبنى عليها القباب ، لمثل السبب الذي وضعوا له تماثيل الأوثان ، وعبدة
[ ص: 266 ] هذه القبور يعتقدون أن المدفونين فيها أحياء يقضون حاجات من يدعونهم ويستغيثونهم ، وعلماء الخرافات يقولون لهم إن عملهم هذا شرعي .
نعم ليس المراد هنا من نفي ضرها ونفعها أنها جمادات لا عمل لها فقط كما قيل ، وإن كانت الحجة على عبادة هذه الأصنام أظهر من الحجة على عبادة الثعابين والبقر والقرود - ولا يزال لها بقية في
الهند - وعلى عبادة البشر التي هي أساس النصرانية الآرية التي وضعها الإمبراطور
قسطنطين ، ومن اتبع سنن
النصارى والهنود من جهلة المسلمين ، وإنما المراد المقصود بالذات بيان بطلان الشرك بالألوهية ، وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود ، وبطلان الشرك بالربوبية وهو قسمان : ادعاء وساطتهم في الخلق والتدبير ، واحتجاجهم عليهم بشفاعتهم عند الله . وهو كذب في التشريع الذي هو حق الرب وحده ولا يعلم إلا بوحيه . بيان الأول : أن كل ما عبد ومن عبد من دون الله حتى الجن والملائكة لا يملكون لعابديهم النفع والضر بالقدرة الذاتية الغيبية ، التي هي فوق الأسباب التي منحها الخالق للمخلوقات على اختلاف أنواعها ، لا بذواتهم وكراماتهم ، ولا بتأثير خاص لهم عند الخالق يحملونه به على نفع من شاءوا أو ضر ما شاءوا أو كشف الضر عنه ، كما يعتقد عباد الأنبياء والأولياء من البشر إلى هذا اليوم ؛ ولهذا أمر الله تعالى رسوله أن يحتج على
النصارى في عبادتهم للمسيح عليه السلام بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=76قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ) ( 5 : 76 ) وهذه حجة على عبدة القبور وعلى أصحاب العمائم الذين يتأولون لهم عبادتهم بما يظنون أنه يبعدهم عن عباد الأصنام ، بقولهم إن هؤلاء الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام ، ولكن الله تعالى يقول
للنصارى : إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له على ما آتاه من المعجزات ، وإن هؤلاء الدجالين من الشيوخ يؤمنون بأن المسيح أفضل من
البدوي والحسين والسيدة زينب وغيرهم ممن يزعمون أنهم يملكون الضر والنفع لمن يطلبه منهم ، وحياته لا تزال في اعتقادهم حياة عنصرية وحياتهم برزخية ومعجزاته قطعية وكراماتهم غير قطعية .
كذلك أمر الله تعالى رسوله خاتم النبيين وأفضلهم أن يخبر الناس بنفي ملكه لضر الناس ونفعهم وهو حي كما يأتي في الآية ( 49 ) من هذه السورة . وسبق مثلها في سورة الأعراف ( 7 : 188 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) أي يقولون في سبب عبادتهم لهم ، مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم لإيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى : هؤلاء شفعاؤنا عند الله فنحن نعبدهم بتعظيم هياكلهم وتطييبها بالعطر والطواف بها وبتقديم النذور لهم ، والإهلال عند ذبح القرابين بأسمائهم ، وبدعائهم والاستغاثة بهم ؛ لأنهم شفعاؤنا عند الله يقربوننا إليه زلفى فيدفع بجاههم عنا البلاء ، ويعطينا ما نطلب من النعماء ، هذا ما يقوله منكرو البعث منهم
[ ص: 267 ] وهم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآخرة . على أنهم إذا فرضوا وجودها ، زعم مجرموهم أنهم يكونون فيها كما كانوا في الدنيا ، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=35وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 35 ) وقوله في الإنسان الكافر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) ( 41 : 50 ) وروي عن
عكرمة أن
النضر بن الحارث من كبار مجرميهم قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى . وكذلك كل من يؤمن بالآخرة ممن يعبدون غير الله ، يعتقدون أن معبوديهم يشفعون لهم فيها كما يشفعون لهم في الدنيا ، فإن أساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلبونه من الله لا بد أن يكون بوساطة المقربين عنده لأنهم لا يمكنهم القرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم لأنهم مدنسة بالمعاصي ، بخلاف دين التوحيد ، فإنه يوجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) أي قل لهم أيها الرسول منكرا عليهم جهالتهم وافتراءهم على ربهم : أتخبرون الله تعالى وتعلمونه بشيء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء في السماوات من ملائكته ولا في الأرض من خواص خلقه ، فإنه لو كان فيهما شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم ؛ فإنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فكيف يخفى عليه من لهم من المكانة عنده أن جعلهم وسطاء بينه وبين خلقه في قضاء حاجهم من نفع وضر ، وفي تقريبهم إليه زلفى كالوسطاء عند ملوك البشر ، الجاهلين بأمور رعيتهم والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم بدون وساطة الوزراء والحجاب والقواد ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18سبحانه وتعالى عما يشركون ) أي تنزيها له وتعالى علوا كبيرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء . وما يفترونه عليه بجعلهم هذا دينا يتقرب به إليه . فهذا تذييل للجواب مبين لما في هذا الشرك من إهانة مقام الربوبية والألوهية ، وتشبيه رب العالمين ، بعبيده من الملوك الجاهلين العاجزين ، وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ( تشركون ) بتاء الخطاب ، على أنه تتمة للجواب . وحكمة القراءتين تنزيهه تعالى عن شرك الجميع من غائب محكي عنه وحاضر مخاطب .
وفي هذا الجواب من أصول الدين أن شئون الرب وسائر ما في عالم الغيب توقيفي لا يعلم إلا بخبر الوحي ، ومنه اتخاذ الوسطاء عند الله مما ذكر وأنه عين الشرك . ولكن من علماء الأزهر من يثبتون هذه الوساطة بالرأي . ويحرفون ما ينقضها من الآيات المحكمات والأحاديث المتفق عليها كأنها هي الأصل ، حتى إنهم يبيحون
nindex.php?page=treesubj&link=28703_28705_28681دعاء الموتى واستغاثتهم عند قبورهم . ويحتجون على ذلك بأنهم أحياء فيهم ، وبأن الإفرنج أثبتوا وجود الأرواح وعلاقتها بالناس ، ولكن الذين قالوا بهذا من علمائهم وهم أقلهم ، لم يقولوا إنها تنفعهم وتضرهم ، أو تشفع عند الله لهم ، ولو قالوا هذا لما كان لنا أن نتخذ قولهم حجة نعارض بها نصوص ديننا أو نتأولها لتوافقها ،
[ ص: 268 ] ولمشيخة الأزهر الرسمية مجلة تنشر باسمها هذه البدع والخرافات في جميع بلاد المسلمين ، وتطعن على المعتصمين بالسنة وسيرة السلف الصالحين وعلى المعتصمين بالقرآن أيضا وهو حبل الله المتين ، لزعمهم أن الواجب عليهم هو أخذ الدين كله عن كتب مقلدة الفقهاء والمتكلمين ، حتى المتأخرين منهم دون الأئمة المجتهدين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَحْضِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِي الشَّفَاعَةُ ، وَتَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بُطْلَانُهَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَحْدَهُ ، وَصَرَّحَ هُنَا بِإِسْنَادِ هَذَا الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ وَبِاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ . ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18nindex.php?page=treesubj&link=28981_28673_28705وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ) الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ بَيَانِ
[ ص: 265 ] شِرْكِهِمْ وَسَخَافَتِهِمْ فِيهِ ، وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي جُحُودِ الْحَقِّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْوَحْيُ ، أَيْ وَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ غَيْرِ اللَّهِ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ، لَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا وَحْدَهَا ، فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=106وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) ( 12 : 106 ) وَفِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ إِيذَانٌ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا وَضَلَالِهِمْ فِيهِ ، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِ مَنْ يَعْبُدُهُ ، وَضُرِّ مَنْ يَكْفُرُهُ ، وَيُشْرِكُ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَأَصْلُ غَرِيزَةِ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي الْبَشَرِ ، فِي سَذَاجَتِهِمُ الَّتِي لَا تَلْقِينَ فِيهَا لِحَقٍّ وَلَا بَاطِلٍ ، هِيَ الشُّعُورُ الْبَاطِنُ بِأَنَّ فِي الْوُجُودِ قُوَّةً غَيْبِيَّةً وَسُلْطَانًا عُلْوِيًّا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ لِمَنْ شَاءَ ، وَإِيقَاعِ الضُّرِّ عَلَى مَنْ شَاءَ وَكَشْفِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَمَّنْ شَاءَ ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلنَّاسِ ، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَوَارِيخِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِمُ الْبَدَوِيَّةِ وَالْحَضَرِيَّةِ ، يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ التَّدَيُّنِ الْغَرِيزِيِّ فِيهِمْ ، وَأَمَّا صُوَرُ التَّعَبُّدِ وَتَسْمِيَةُ الْمَعْبُودَاتِ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ تَلْقِينِ دُعَاةِ الدِّينِ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ . فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّمَا عَبَدَهُ مَنْ عَبَدَهُ لِشُبْهَةٍ فَهِمَ مِنْهَا قُدْرَتَهُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ لَهُ فَوْقَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ الْعِبَادَةِ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ ، وَأَوْسَطُهَا وَأَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ قِصَّةِ
إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِيهِ
آزَرَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَمِنْ آخِرِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَوَارِقِ مِنْ بَحْثِ الْوَحْيِ الِاسْتِطْرَادِيِّ .
فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ - هُوَ بَيَانَ عَجْزِهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا جَمَادَاتٌ مَصْنُوعَةٌ كَالْأَوْثَانِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ ، وَالْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَكَذَا الْحِجَارَةِ ، أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعَةٍ كَاللَّاتِ وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ
بِالطَّائِفِ يُلَتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقُ ثُمَّ عُظِّمَتْ حَتَّى عُبِدَتْ ، وَإِمَّا أَشْجَارٌ كَالْعُزَّى مَعْبُودَةِ
قُرَيْشٍ ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي قَطَعَهَا الشَّيْخُ
مُحَمَّدُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي
نَجْدٍ ، وَشَجَرَةِ الْمَنْضُورَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا النِّسَاءُ فِي
مِصْرَ لِأَجْلِ الْحَبَلِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ قَدْ وُضِعَتْ ذِكْرَى لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَصْنَامِ قَوْمِ
نُوحٍ ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ عِبَادَتُهُمْ إِلَى الْعَرَبِ ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِيهَا أَرْوَاحًا مِنَ الْجِنِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ شَجَرَةِ الْعُزَّى أَوْ شَجَرَاتِهَا الثَّلَاثِ ، إِذْ ظَهَرَتْ عِنْدَ قَطْعِهَا
nindex.php?page=showalam&ids=22لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا جِنِّيَّةٌ ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُوَاثِبَهُ وَتُخِيفَهُ فَقَتَلَهَا ، فَهِيَ كَالْقُبُورِ الَّتِي تُشَرَّفُ وَتُجَصَّصُ وَيُوضَعُ عَلَيْهَا السُّتُورُ وَتُبْنَى عَلَيْهَا الْقِبَابُ ، لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ تَمَاثِيلَ الْأَوْثَانِ ، وَعَبَدَةُ
[ ص: 266 ] هَذِهِ الْقُبُورِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَدْفُونِينَ فِيهَا أَحْيَاءٌ يَقْضُونَ حَاجَاتِ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ ، وَعُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا شَرْعِيٌّ .
نَعَمْ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ نَفْيِ ضَرِّهَا وَنَفْعِهَا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا عَمَلَ لَهَا فَقَطْ كَمَا قِيلَ ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَظْهَرَ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى عِبَادَةِ الثَّعَابِينِ وَالْبَقَرِ وَالْقُرُودِ - وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي
الْهِنْدِ - وَعَلَى عِبَادَةِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ النَّصْرَانِيَّةِ الْآرِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْإِمْبِرَاطُورُ
قُسْطَنْطِينُ ، وَمَنِ اتَّبَعَ سَنَنَ
النَّصَارَى وَالْهُنُودِ مِنْ جَهَلَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بَيَانُ بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالْأُلُوهِيَّةِ ، وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ مَهْمَا يَكُنِ الْمَعْبُودُ ، وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ قِسْمَانِ : ادِّعَاءُ وَسَاطَتِهِمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ . وَهُوَ كَذِبٌ فِي التَّشْرِيعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ وَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيِهِ . بَيَانُ الْأَوَّلِ : أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَتَّى الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَمْلِكُونَ لِعَابِدِيهِمُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا ، لَا بِذَوَاتِهِمْ وَكَرَامَاتِهِمْ ، وَلَا بِتَأْثِيرٍ خَاصٍّ لَهُمْ عِنْدَ الْخَالِقِ يَحْمِلُونَهُ بِهِ عَلَى نَفْعِ مَنْ شَاءُوا أَوْ ضُرِّ مَا شَاءُوا أَوْ كَشَفِ الضُّرِّ عَنْهُ ، كَمَا يَعْتَقِدُ عُبَّادُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى
النَّصَارَى فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=76قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( 5 : 76 ) وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى عَبَدَةِ الْقُبُورِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ عِبَادَتَهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُبْعِدُهُمْ عَنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ ، بِقَوْلِهِمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ فَهُمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ لَا كَالْأَصْنَامِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
لِلنَّصَارَى : إِنَّ الْمَسِيحَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بِعِبَادَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنَ الشُّيُوخِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنَ
الْبَدَوِيِّ وَالْحُسَيْنِ وَالسَّيِّدَةِ زَيْنَبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ ، وَحَيَاتُهُ لَا تَزَالُ فِي اعْتِقَادِهِمْ حَيَاةً عُنْصُرِيَّةً وَحَيَاتُهُمْ بَرْزَخِيَّةٌ وَمُعْجِزَاتُهُ قَطْعِيَّةٌ وَكَرَامَاتُهُمْ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ .
كَذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَهُمْ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِنَفْيِ مِلْكِهِ لِضُرِّ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ وَهُوَ حَيٌّ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ ( 49 ) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ . وَسَبَقَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ( 7 : 188 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) أَيْ يَقُولُونَ فِي سَبَبِ عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِأَنْفُسِهِمْ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى : هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَنَحْنُ نَعْبُدُهُمْ بِتَعْظِيمِ هَيَاكِلِهِمْ وَتَطْيِيبِهَا بِالْعِطْرِ وَالطَّوَافِ بِهَا وَبِتَقْدِيمِ النُّذُورِ لَهُمْ ، وَالْإِهْلَالِ عِنْدَ ذَبْحِ الْقَرَابِينِ بِأَسْمَائِهِمْ ، وَبِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى فَيَدْفَعُ بِجَاهِهِمْ عَنَّا الْبَلَاءَ ، وَيُعْطِينَا مَا نَطْلُبُ مِنَ النَّعْمَاءِ ، هَذَا مَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْبَعْثِ مِنْهُمْ
[ ص: 267 ] وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ . عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا فَرَضُوا وُجُوَدَهَا ، زَعَمَ مُجْرِمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=35وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) ( 34 : 35 ) وَقَوْلِهِ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ) ( 41 : 50 ) وَرُوِيَ عَنْ
عِكْرِمَةَ أَنَّ
النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ كِبَارِ مُجْرِمِيهِمْ قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِيهَا كَمَا يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّ أَسَاسَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَسَاطَةِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ وَالْحُظْوَةُ عِنْدَهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُدَنَّسَةٌ بِالْمَعَاصِي ، بِخِلَافِ دِينِ التَّوْحِيدِ ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْعَاصِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ تَائِبًا إِلَيْهِ طَالِبًا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ جَهَالَتَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ : أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَتُعْلِمُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ أَنْ جَعْلَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي قَضَاءِ حَاجِهِمْ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ ، وَفِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَالْوُسَطَاءِ عِنْدَ مُلُوكِ الْبَشَرِ ، الْجَاهِلِينَ بِأُمُورِ رَعِيَّتِهِمْ وَالْعَاجِزِينَ عَنْ تَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ وَسَاطَةِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ وَالْقُوَّادِ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ . وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِهِمْ هَذَا دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ . فَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْجَوَابِ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنْ إِهَانَةِ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ ، وَتَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بِعَبِيدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الْعَاجِزِينَ ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ ( تُشْرِكُونَ ) بِتَاءِ الْخِطَابِ ، عَلَى أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ . وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكِ الْجَمِيعِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ .
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ شُئُونَ الرَّبِّ وَسَائِرَ مَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الْوَحْيِ ، وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْوُسَطَاءِ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّهُ عَيْنُ الشِّرْكِ . وَلَكِنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مَنْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ بِالرَّأْيِ . وَيُحَرِّفُونَ مَا يَنْقُضُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُبِيحُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=28703_28705_28681دُعَاءَ الْمَوْتَى وَاسْتِغَاثَتَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ . وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِيهِمْ ، وَبِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ وَعَلَاقَتَهَا بِالنَّاسِ ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّهُمْ ، لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ ، أَوْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ لَهُمْ ، وَلَوْ قَالُوا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ قَوْلَهُمْ حُجَّةً نُعَارِضُ بِهَا نُصُوصَ دِينِنَا أَوْ نَتَأَوَّلُهَا لِتُوَافِقِهَا ،
[ ص: 268 ] وَلِمَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ مَجَلَّةٌ تَنْشُرُ بِاسْمِهَا هَذِهِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، وَتَطْعَنُ عَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَعَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَخْذُ الدِّينِ كُلِّهِ عَنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ ، حَتَّى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ .