(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31nindex.php?page=treesubj&link=28981قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ) .
[ ص: 291 ] هذا نوع آخر من أسلوب
nindex.php?page=treesubj&link=28658_29426_28760_30336إقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث ، وهو أسلوب السؤال والجواب ، ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31قل من يرزقكم من السماء والأرض ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين من أهل
مكة : من يرزقكم من السماء بما ينزله من المطر ، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات نجمه وشجره مما تأكلون وتأكل أنعامكم ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31والأرض أمن يملك السمع والأبصار ) بل قل لهم أيضا : من يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواس السمع والأبصار ، التي لولاها لم تكونوا تعلمون من أمر العالم شيئا ، بل تكون الأنعام والحشرات وكذا الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها ، من يملك خلق هذه الحواس وهبتها للناس ، وحفظها من الآفات وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال البشرية ، وتحصيل العلوم الأولية ، يشعر بذلك المسئولون بمجرد إلقاء السؤال ، وكلما ازدادوا فيه تفكرا ازدادوا علما وإعجابا وإكبارا لإنعام الله تعالى بهما وإيمانا بأنه لا يقدر غيره عليهما ، ولا سيما إدراك الكلام بحاسة السمع ، وما يرسمه صوت المتكلم في الهواء من معلوماته التي يدلي بها إلى غيره فتتكيف بها كل ذرة من ذراته ( أي الهواء ) فتقرع به طبلة كل أذن من آذان السامعين وإن كثروا ، فينقلها العصب المتصل بها إلى مركز إدراك الكلام من دماغه ، فيدرك معناها المدلول عليه بها بأقوى مما يدركه من قرأها مخطوطة في كتاب ، لما لجرس الصوت من التأثير الخاص ، فمن ذا الذي خلق هذه الآيات ؟ ومن ذا الذي ألهمها إيداع هذه المعاني في الأصوات ومن ذا الذي وضع هذا النظام في الهواء ؟ .
ثم إذا ازداد علما بإدراك البصر للمبصرات ، وما لها من المقادير والألوان والصفات ، وما للعين الباصرة من الشكل المحدب ، وما لها من الطبقات والرطوبات ، الموافقة لسنن الله في النور الذي تدرك به المرئيات ، مما هو مبسوط في الأسفار وموجز في المختصرات ، ازداد يقينا بأن ذلك من آيات الله الدالة على علمه وحكمته في الكائنات ، وإن غفل عنها المشغولون عن عظمة الصانع بعظمة المصنوعات ، وقد وحد السمع لأن إدراكه لجنس واحد هو الأصوات وجمع البصر لتعدد أجناس المبصرات .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) أي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله ، فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث وتتجدد ، وفيما لا تعرفون ؟ فمما كانوا يعرفون أن النبات يخرج من الأرض الميتة
[ ص: 292 ] بعد إحياء الله تعالى إياها بماء المطر النازل عليها من السماء ، أو النابع منها بعد أن سلكه الله تعالى فيها كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=21ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ) ( 39 : 21 ) الآية بل كانت الحياة المعروفة عندهم قسمين : حياة النبات وآيتها النمو ، وحياة الحيوان وآيتها النمو والإحساس والحركة بالإرادة ، وكانوا يعدون وصف الأرض بالحياة مجازا ولم يكونوا يصفون أصول الأحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيه ، ولذلك فسر بعض المفسرين إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما وما يشابههما ، وهو تفسير صحيح عند أهل اللغة غير صحيح عند علماء الحياة النباتية والحيوانية ، وتحصل به الدلالة المقصودة من الآية على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته عند المخاطبين ، وليس المراد به وضع قواعد فنية للحياة وأنواعها وتحديد وظائفها ، على أنه يمكن تفسيرها بما يتفق وقواعد الفنون وتجارب العلوم التي تزداد عصرا بعد عصر ، فإذا كان أهلها يثبتون أن في أصول النبات من بذر ونوى وبيض ومني حياة ، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة ، فإن الأرض عندهم كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ، ثم صارت ماء ، ثم نبتت اليابسة في الماء ، ثم تكون من الماء النبات والحيوان في أطوار سبق الكلام فيها ، ويثبتون أيضا أن الغذاء من الطعام الذي يحرق بالنار يتولد منه دم ، ومن هذا الدم يكون البيض والمني المشتملان على مادة الحياة ، ويثبتون أيضا أن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ويلفظه ، ويتجدد فيه مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر وخرج منه ، والمراد من الآية : إثبات قدرة الخالق وتدبيره ونعمه على عباده وهو عام لا يتوقف على الفن ومحدثات العلم ، بل تزيده كمالا للمؤمن المعتبر ، وقد تكون حجابا لغيره تحجبه عن ربه ، فالقاعدة عند علماء الحياة أن الحي لا يخرج إلا من حي ، فتعين أن تكون الحياة الأولى من خلق الله الحي لذاته المحيي لغيره .
وورد في التفسير المأثور تفسير الحياة والموت في مثل هذه الآية بالمعنويين منهما ، كخروج المؤمن من سلالة الكافر ، والعالم من الجاهل ، والبر من الفاجر وعكسها ، وقد قدمناه في تفسير آية آل عمران ( 3 : 27 ) الوارد فيها لأنه المناسب لسياقها . وهناك رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وأبو الشيخ عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=16000وسعيد بن منصور ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات
وأبو الشيخ في العظمة عن
سلمان - رضي الله عنه - وكذا
ابن مردويه عنه وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود - رضي الله عنه - فراجعه في تفسيرها من الدر المنثور وسياق هذه الآيات هنا يناسب ما فسرناها به من الحياة والموت في العالم كله ويؤيده قوله تعالى :
[ ص: 293 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31ومن يدبر الأمر ) في الخليقة كلها بما أودعه في كل منها من السنن وقدره من النظام ، وتقدم تفسير التدبير عند ذكره في أول هذه السورة (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31فسيقولون الله ) أي فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمس أن فاعل ذلك كله هو الله رب كل شيء ومليكه ؛ إذ لا جواب غيره وهم لا يجهلونه ، فالاستفهام عنه لحملهم على الإقرار به ليرتب عليه قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31فقل أفلا تتقون ) أي فقل لهم أيها الرسول أتعلمون هذا وتقرون به ، فلا تتقون سخط الله وعقابه لكم بشرككم به ، وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم من تلك الأمور شيئا ، وهو المالك لها كلها ؟ ! .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فذلكم الله ربكم الحق ) هذه فذلكة ما تقدم ، أي فذلكم الذي يفعل ما ذكر الله ربكم ، أي المربي لكم بنعمه والمدبر لأموركم ، الحق الثابت بذاته ؛ لأنه هو الحي القيوم الحي بذاته ، المحيي لغيره ، القائم بنفسه ، المقيم لغيره ، وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه ، والمستحق للعبادة دون سواه (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فماذا بعد الحق إلا الضلال ) الاستفهام إنكاري ، وفي الجملة إدماج بما يسمونه الاحتباك ، أي فماذا بعد الحق إلا الباطل ؟ وماذا بعد الهدى إلا الضلال ؟ والواسطة بين الطرفين المتضادين المتناقضين ممنوعة كالعقائد ، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق ، فالقول بربوبية ما سواه باطل ، وهو الإله الذي يعبد بحق ، وعبادته وحده هي الهدى ، فما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال ، فكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فأنى تصرفون ) أي فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال ، بعد العلم والإقرار بما كان به الله هو الرب الحق ، وإنما الإله الحق ، الذي يعبد بالحق ، هو الرب الحق ، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ؟ فتتخذون مع الله آلهة أخرى ولا تتحقق الألوهية إلا بتحقق الربوبية ؟ .
فالآية تقرر أن
nindex.php?page=treesubj&link=28666_28665_28658التوحيد لا يصح مع الفصل بين الربوبية والألوهية كما كانوا يفعلون ، وقد جهل هذا بعض علماء الأزهر في هذا الزمان ، الذين أخذوا عقيدتهم من بعض الكتب الكلامية المبتدعة وجهلوا عقائد القرآن ، فلم يفرقوا بين مفهومي الرب والإله في اللغة العربية ، وما كان عليه أهلها في الجاهلية ، على أن الإسلام إنما وحد بينهما في الماصدق الشرعي ، لا في المفهوم اللغوي ، واحتج بهذا على المشركين هنا وفي آيات كثيرة ، كما صرح به
الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره من قبله ومن بعده .
وفي الآية من قواعد العقائد الدينية وأصول التشريع والعلم ، أن الحق والباطل فيهما
[ ص: 294 ] ضدان لا يجتمعان ، وأن الهدى والضلال ضدان لا يجتمعان ، ولهذا الأصل فروع كثيرة في الدين والعلم العقلي . وفيها من حسنات الإيجاز في التعبير ما يسميه علماء البديع بالاحتباك ، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين ما يدل عليه مقابله في الآخر ، وهو ظاهر في الآية أتم الظهور ، وإن غفل عنه الجمهور .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا ) أي مثل ذلك الذي حقت به كلمة ربك أيها الرسول في وحدة الربوبية والألوهية ، وكون الحق ليس بعده لتاركه إلا الباطل ، والهدى ليس وراءه للناكب عنه إلا الضلال ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33حقت كلمة ربك ) ) : أي سنته أو وعيده على الذين فسقوا ، أي خرجوا من حظيرة الحق وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق . ففي كلمة الرب وجهان ، لكل منهما أصل في القرآن .
أحدهما : أنها كلمة التكوين ، وهي سنته في الفاسقين الخارجين من نور الفطرة واستقلال العقل ، الذين لا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل والتفرقة بين الهدى والضلال ؛ لرسوخهم في الكفر واطمئنانهم به بالتقليد والعمل فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33أنهم لا يؤمنون ) على هذا بيان للكلمة أو بدل منها ، أي اقتضت سنته في غرائز البشر وأخلاقهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33أنهم لا يؤمنون ) بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن آياتهم بينة ، وحججهم قوية ظاهرة ، وليس معناه أنه تعالى يمنعهم من الإيمان منعا قهريا مستأنفا بمحض قدرته ، بل معناه أنهم يمتنعون منه باختيارهم ترجيحا للكفر عليه .
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في هذه السورة (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=96إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ( 10 : 96 و 97 ) .
والوجه الثاني : أنها كلمة خطاب التكليف بوعيد الفاسقين الكافرين بعذاب الآخرة كقوله في سورة الم السجدة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20وأما الذين فسقوا فمأواهم النار ) ( 32 : 20 ) وقوله في سورة غافر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=6وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ) ( 40 : 6 ) ويكون قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33أنهم لا يؤمنون ) على هذا تعليلا لما قبله بحذف حرف الجر ، أي لأنهم أو بأنهم لا يؤمنون .
وكل من الوجهين حق ظاهر . والأول أظهر هنا .
وقرأ
نافع وابن عامر ( كلمة ) في آيتي يونس وآية غافر بالجمع ( كلمات ) ولأجل ذلك رسمت في المصحف الإمام بالتاء المبسوطة ( كلمت ) ووجه قراءة الجمع أن هذا المعنى بوجهيه قد تعدد وتكرر في آيات الكتاب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31nindex.php?page=treesubj&link=28981قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) .
[ ص: 291 ] هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أُسْلُوبِ
nindex.php?page=treesubj&link=28658_29426_28760_30336إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ ، وَهُوَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ ، وَيَلِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْمَطَرِ ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِمَا يُنْبِتُهُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَتَأْكُلُ أَنْعَامُكُمْ ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ) بَلْ قُلْ لَهُمْ أَيْضًا : مَنْ يَمْلِكُ مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ مِنْ حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ ، الَّتِي لَوْلَاهَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ شَيْئًا ، بَلْ تَكُونُ الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ وَكَذَا الشَّجَرُ خَيْرًا مِنْكُمْ بِاسْتِغْنَائِهَا عَمَّنْ يَقُومُ بِضَرُورَاتِ مَعَاشِهَا ، مَنْ يَمْلِكُ خَلْقَ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَهِبَتِهَا لِلنَّاسِ ، وَحِفْظِهَا مِنَ الْآفَاتِ وَخَصَّ هَاتَيْنِ الْحَاسَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا مَدَارَ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَكَمَالَ الْبَشَرِيَّةِ ، وَتَحْصِيلَ الْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ ، يَشْعُرُ بِذَلِكَ الْمَسْئُولُونَ بِمُجَرَّدِ إِلْقَاءِ السُّؤَالِ ، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا فِيهِ تَفَكُّرًا ازْدَادُوا عِلْمًا وَإِعْجَابًا وَإِكْبَارًا لِإِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمَا وَإِيمَانًا بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا ، وَلَا سِيَّمَا إِدْرَاكَ الْكَلَامِ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ ، وَمَا يَرْسُمُهُ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْهَوَاءِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ الَّتِي يُدْلِي بِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَتَتَكَيَّفُ بِهَا كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ ( أَيِ الْهَوَاءُ ) فَتُقْرَعُ بِهِ طَبْلَةُ كُلِّ أُذُنٍ مِنْ آذَانِ السَّامِعِينَ وَإِنْ كَثُرُوا ، فَيَنْقُلُهَا الْعَصَبُ الْمُتَّصِلُ بِهَا إِلَى مَرْكَزِ إِدْرَاكِ الْكَلَامِ مِنْ دِمَاغِهِ ، فَيُدْرِكُ مَعْنَاهَا الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِهَا بِأَقْوَى مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ قَرَأَهَا مَخْطُوطَةً فِي كِتَابٍ ، لِمَا لِجَرْسِ الصَّوْتِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ ، فَمَنْ ذَا الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْآيَاتِ ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَلْهَمَهَا إِيدَاعَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْوَاتِ وَمَنْ ذَا الَّذِي وَضَعَ هَذَا النِّظَامَ فِي الْهَوَاءِ ؟ .
ثُمَّ إِذَا ازْدَادَ عِلْمًا بِإِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلْمُبْصِرَاتِ ، وَمَا لَهَا مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ ، وَمَا لِلْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ مِنَ الشَّكْلِ الْمُحَدَّبِ ، وَمَا لَهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ ، الْمُوَافِقَةِ لِسُنَنِ اللَّهِ فِي النُّورِ الَّذِي تُدْرِكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ ، مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْأَسْفَارِ وَمُوجَزٌ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ ، ازْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا الْمَشْغُولُونَ عَنْ عَظَمَةِ الصَّانِعِ بِعَظَمَةِ الْمَصْنُوعَاتِ ، وَقَدْ وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّ إِدْرَاكَهُ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَجَمَعَ الْبَصَرَ لِتَعَدُّدِ أَجْنَاسِ الْمُبْصَرَاتِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) أَيْ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَمْلِكُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ ، فَيُخْرِجُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فِيمَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَجَدَّدُ ، وَفِيمَا لَا تَعْرِفُونَ ؟ فَمِمَّا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ النَّبَاتَ يُخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ
[ ص: 292 ] بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَاءِ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ ، أَوِ النَّابِعِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ سَلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=21أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) ( 39 : 21 ) الْآيَةَ بَلْ كَانَتِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ قِسْمَيْنِ : حَيَاةُ النَّبَاتِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ ، وَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ وَالْإِحْسَاسُ وَالْحَرَكَةُ بِالْإِرَادَةِ ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ وَصْفَ الْأَرْضِ بِالْحَيَاةِ مَجَازًا وَلَمْ يَكُونُوا يَصِفُونَ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ بِالْحَيَاةِ كَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَبَيْضِ الْحَيَوَانِ وَمَنِيِّهِ ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِخْرَاجَ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالطَّائِرِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَعَكْسِهِمَا وَمَا يُشَابِهُهُمَا ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ ، وَتَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَرَحْمَتِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ وَضْعَ قَوَاعِدَ فَنِّيَّةٍ لِلْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَحْدِيدَ وَظَائِفِهَا ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِمَا يَتَّفِقُ وَقَوَاعِدَ الْفُنُونِ وَتَجَارِبَ الْعُلُومِ الَّتِي تَزْدَادُ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا يُثْبِتُونَ أَنَّ فِي أُصُولِ النَّبَاتِ مِنْ بَذْرٍ وَنَوَى وَبَيْضٍ وَمَنِيٍّ حَيَاةً ، فَهُمْ يُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا خَرَجَتْ مِنْ مَادَّةٍ مَيِّتَةٍ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ كُتْلَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً انْفَصَلَتْ مِنَ الشَّمْسِ ، ثُمَّ صَارَتْ مَاءً ، ثُمَّ نَبَتَتِ الْيَابِسَةُ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ تَكَوَّنَ مِنَ الْمَاءِ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فِي أَطْوَارٍ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا ، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ الْغِذَاءَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يُحْرَقُ بِالنَّارِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ دَمٌ ، وَمِنْ هَذَا الدَّمِ يَكُونُ الْبَيْضُ وَالْمَنِيُّ الْمُشْتَمِلَانِ عَلَى مَادَّةِ الْحَيَاةِ ، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ مَوَادِّ الْبَدَنِ الْحَيَّةِ تَمُوتُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ الْبُخَارِ وَالْعَرَقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْبَدَنُ وَيَلْفِظُهُ ، وَيَتَجَدَّدُ فِيهِ مَوَادٌّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ تَحُلُّ مَحَلَّ مَا انْدَثَرَ وَخَرَجَ مِنْهُ ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ : إِثْبَاتُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَتَدْبِيرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَامٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَنِّ وَمُحْدَثَاتِ الْعِلْمِ ، بَلْ تَزِيدُهُ كَمَالًا لِلْمُؤْمِنِ الْمُعْتَبِرِ ، وَقَدْ تَكُونُ حِجَابًا لِغَيْرِهِ تَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ ، فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْحَيِّ لِذَاتِهِ الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ .
وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَوِيَّيْنِ مِنْهُمَا ، كَخُرُوجِ الْمُؤْمِنِ مِنْ سُلَالَةِ الْكَافِرِ ، وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ ، وَالْبَرِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَعَكْسِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ ( 3 : 27 ) الْوَارِدِ فِيهَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِهَا . وَهُنَاكَ رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=16000وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ nindex.php?page=showalam&ids=16328وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ
سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَذَا
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَاجِعْهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا يُنَاسِبُ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
[ ص: 293 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِمَا أَوْدَعَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ السُّنَنِ وَقَدَّرَهُ مِنَ النِّظَامِ ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّدْبِيرِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) أَيْ فَسَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الْخَمْسِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ ؛ إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُهُ وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَهُ ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لِحَمْلِهِمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) أَيْ فَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَتَعْلَمُونَ هَذَا وَتُقِرُّونَ بِهِ ، فَلَا تَتَّقُونَ سُخْطَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ لَكُمْ بِشِرْكِكُمْ بِهِ ، وَعِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَيْئًا ، وَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا كُلِّهَا ؟ ! .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ) هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ ، أَيْ فَذَلِكُمُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ اللَّهُ رَبُّكُمْ ، أَيِ الْمُرَبِّي لَكُمْ بِنِعَمِهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِكُمْ ، الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِذَاتِهِ ، الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ ، الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ ، الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ ، وَفِي الْجُمْلَةِ إِدْمَاجٌ بِمَا يُسَمُّونَهُ الِاحْتِبَاكَ ، أَيْ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الْبَاطِلُ ؟ وَمَاذَا بَعْدَ الْهُدَى إِلَّا الضَّلَالُ ؟ وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَالْعَقَائِدِ ، فَالَّذِي يَفْعَلُ تِلْكَ الْأُمُورَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ ، فَالْقَوْلُ بِرُبُوبِيَّةِ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يُعْبَدُ بِحَقٍّ ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ هِي الْهُدَى ، فَمَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْوُسَطَاءِ ضَلَالٌ ، فَكُلُّ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ مُبْطِلٌ ضَالٌّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ وَتَتَحَوَّلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ ، وَعَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ ، بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا كَانَ بِهِ اللَّهُ هُوَ الرَّبَّ الْحَقَّ ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْحَقُّ ، الَّذِي يُعْبَدُ بِالْحَقِّ ، هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ ، فَمَا بَالُكُمْ تُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ ؟ فَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى وَلَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الرُّبُوبِيَّةِ ؟ .
فَالْآيَةُ تُقَرِّرُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28666_28665_28658التَّوْحِيدَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، الَّذِينَ أَخَذُوا عَقِيدَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَجَهِلُوا عَقَائِدَ الْقُرْآنِ ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْهُومَيِ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا وَحَّدَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ الشَّرْعِيِّ ، لَا فِي الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ ، وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ .
وَفِي الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ وَالْعِلْمِ ، أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فِيهِمَا
[ ص: 294 ] ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ . وَفِيهَا مِنْ حَسَنَاتِ الْإِيجَازِ فِي التَّعْبِيرِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآخَرِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْآيَةِ أَتَمَّ الظُّهُورِ ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ) أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي حَقَّتْ بِهِ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي وَحْدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ ، وَكَوْنِ الْحَقِّ لَيْسَ بَعْدَهُ لِتَارِكِهِ إِلَّا الْبَاطِلُ ، وَالْهُدَى لَيْسَ وَرَاءَهُ لِلنَّاكِبِ عَنْهُ إِلَّا الضَّلَالُ ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) ) : أَيْ سُنَّتُهُ أَوْ وَعِيدُهُ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ، أَيْ خَرَجُوا مِنْ حَظِيرَةِ الْحَقِّ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ الْحَقِّ . فَفِي كَلِمَةِ الرَّبِّ وَجْهَانِ ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ ، وَهِيَ سُنَّتُهُ فِي الْفَاسِقِينَ الْخَارِجِينَ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ ، الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ ؛ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْعَمَلِ فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) عَلَى هَذَا بَيَانٌ لِلْكَلِمَةِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا ، أَيِ اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُنَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى مَهْمَا تَكُنْ آيَاتُهُمْ بَيِّنَةً ، وَحُجَجُهُمْ قَوِيَّةً ظَاهِرَةً ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا قَهْرِيًّا مُسْتَأْنَفًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ تَرْجِيحًا لِلْكُفْرِ عَلَيْهِ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=96إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) ( 10 : 96 و 97 ) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا كَلِمَةُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِوَعِيدِ الْفَاسِقِينَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ) ( 32 : 20 ) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=6وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) ( 40 : 6 ) وَيَكُونُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=33أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) عَلَى هَذَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَوْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .
وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ حَقٌّ ظَاهِرٌ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ هُنَا .
وَقَرَأَ
نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ ( كَلِمَةُ ) فِي آيَتَيْ يُونُسَ وَآيَةِ غَافِرٍ بِالْجَمْعِ ( كَلِمَاتُ ) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِالتَّاءِ الْمَبْسُوطَةِ ( كَلِمَتُ ) وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجَمْعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِوَجْهَيْهِ قَدْ تَعَدَّدَ وَتَكَرَّرَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ .