[ ص: 295 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=36وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28981قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ) لم يعطف هذا الأمر ولا ما بعده على ما قبله من تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتجاج على المشركين ؛ لأن حكم البلاغة فيه الفصل كأمثاله مما يسرد سردا من جنس واحد من المفردات والجمل . أي قل لهم أيها الرسول : هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله من له هذا الشأن في الكون ، وهو بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر سواء كان من الأصنام المنصوبة ، أو من الأرواح التي تزعمون أنها حالة فيها ، أو من الكواكب السماوية أو غيرها من الأحياء كالجن والملائكة ولما كان هذا السؤال مما لا يجيبون عنه كما أجابوا عن أسئلة الخطاب الأول ، لإنكارهم البعث والمعاد - لا لاعتقادهم أن شركاءهم تفعل ذلك - لقن الله رسوله الجواب (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) فأدمج
nindex.php?page=treesubj&link=30336_28760إثبات البعث في توحيد الربوبية لأنه يقتضيه ويستلزمه ، فإن الرب القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى ، على أن الذي ينكرونه هو إعادته تعالى للأحياء الحيوانية دون ما دونها من الأحياء النباتية ، فهم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض عندما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء ، وموته بجفافها في فصل الصيف والخريف ثم إعادته بمثل ما بدأه به مرة بعد أخرى ، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل هذا البدء والإعادة ؛ لأنهم يشاهدون كلا منهما ، فهم أسرى الحس والعيان ، ثم ينكرون قدرته على إعادة خلق الناس ؛ لأنهم لم يشاهدوا أحدا منهم حيي بعد موته ، وقد فقدوا العلم ببرهان القياس ، وإننا لا نزال نرى أمثالا لهم في جاهليتهم ممن تعلموا المنطق وطرق الاستدلال . وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون
[ ص: 296 ] من سلطان الأرواح في عالم الأجسام ، وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم بأنفسهم ، وينبههم للتفكير في أمرهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34فأنى تؤفكون ) أي فكيف تصرفون عن ذلك وهو من دواعي الفطرة وخاصة العقل في التفكير ، للعلم بالحقائق والبحث عن المصير ؟ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ) ؟ هذا سؤال عن شأن آخر من شئون الربوبية ، المقتضية لاستحقاق الألوهية ، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية ، وهو الهداية التي تتم بها حكمة الخلق كما يدل عليه ذكرها عقبه في آيات أخرى كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الذي خلقني فهو يهدين ) ( 26 : 78 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( 20 : 50 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=2الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) ( 87 : 2 ، 3 ) وهي أنواع هداية الفطرة والغريزة ، وهداية الحواس ، وهداية العقل ، وهداية التفكر والاستدلال بكل ذلك ، وهداية الدين ، وهو للنوع البشري في جملته كالعقل لأفراده ، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبيله ومنع الصوارف عنه . ولما كان لا يمكنهم أن يدعوا أن أحدا من أولئك الذين أشركوهم في عبادة الله تعالى ، بادعاء التقريب إليه والشفاعة عنده ، يهدي إلى الحق من ناحية الخلق والتكوين ، ولا من ناحية التشريع ، لقن الله رسوله الجواب بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35قل الله يهدي للحق ) فعل الهدى يتعدى بنفسه كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهدنا الصراط المستقيم ( 1 : 6 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=2ويهديك صراطا مستقيما ) ( 48 : 2 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69لنهدينهم سبلنا ) ( 29 : 69 ) ويتعدى بإلى كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87وهديناهم إلى صراط مستقيم ) ( 6 : 87 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16ويهديهم إلى صراط مستقيم ) ( 5 : 16 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=2يهدي إلى الرشد ) ( 72 : 2 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=22واهدنا إلى سواء الصراط ) ( 38 : 22 ) وباللام كقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ( 7 : 43 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( 17 : 9 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=17بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ) ( 49 : 17 ) فتعديته بنفسه تفيد اتصال الهداية بمتعلقها مباشرة ، وتعديته بــ ( ( اللام ) ) تفيد التقوية أو العلة والسببية ، وبـ ( ( إلى ) ) للغاية التي تنتهي إليها الهداية ، فهي تشمل مقدماتها وأسبابها من حيث كونها موصلة إلى المنتهى المقصود للهادي السائق إليها ، وقد يكون قصده مجهولا لمطيعه كقوله تعالى في الشيطان : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=4كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) ( 22 : 4 ) وكل من هذه الثلاث مستعمل في التنزيل في موضعه اللائق به ، يعلم ذلك من له ذوق سليم في هذه اللغة الدقيقة العالية . وقد جمع في هذه الآية بين التعدية بالحرفين ، وبين ترك التعدية وهو حذف المتعلق الدال على العموم ، وكل منها وقع في موقعه الذي تقتضيه البلاغة فهاكه فلم نر أحدا بينه .
أما الأول : فقد عداه بإلى في حيز الاستفهام الإنكاري ؛ للإيذان بأنه لا أحد من هؤلاء الشركاء المتخذين بالباطل يدل الناس على الطريق الذي ينتهي سالكه إلى الحق من علم وعمل وهو التشريع ، فهو ينفي المقدمات ونتائجها ، والأسباب ومسبباتها ، ولو عداه بنفسه لما أفاد
[ ص: 297 ] إلا إنكار هداية الإيصال إلى الحق بالفعل ، دون هداية التشريع الموصلة إليه ، ولو عداه باللام لكان بمعنى تعديته بنفسه إن كانت اللام للتقوية أو لإنكار هداية يقصد بها الحق إن كانت للتعليل ، والأول أعم وأبلغ كما هو ظاهر .
وأما الثاني : وهو تعديته باللام فهو يستلزم الأول ، وإذا جرينا على جواز استعمال اللام بمعنييها على مذهبنا الذي اتبعنا فيه الإمامين
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير ، يكون معناه : قل الله يهدي لما هو الحق لأجل أن يكون المهتدون به على الحق .
وأما الثالث : أي حذف المتعلق فهو في الشق الثاني من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) قرأ ( يهدي ) يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله يهتدي كما سيأتي في بحث لغة الكلمة ، وقرأها
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بالتخفيف كيرمي ، ومعنى القراءتين مع ما قبلهما نصا واقتضاء : أفمن يهدي إلى الحق ويهدي له ويهديه - وهو الله تعالى - أحق أن يتبع فيما يشرعه ، أم من لا يهدي غيره ولا هو يهتدي بنفسه ممن عبد من دونه إلا أن يهديه غيره ، أي الله تعالى إذ لا هادي غيره ؟ وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال ؛ لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل
المسيح عيسى ابن مريم وعزيرا والملائكة عليهم السلام ، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=73وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) ( 21 : 73 ) وقال
النحاس : الاستثناء منقطع ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج أن يسمع ، فمعنى (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35إلا أن يهدى ) لكنه يحتاج أن يهدى انتهى . فيا لله العجب من هذه البلاغة التي يظهر للمدققين في تعبير القرآن من بدائعها في كل عصر ما فات أساطين بلغاء المفسرين فيما قبله .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35فما لكم كيف تحكمون ) هذا تعجيب من حالهم في جعلهم من هذه حالهم من العجز المطلق شركاء مع القادر على كل شيء ، أورده باستفهامين تقريعيين متواليين ، والمعنى : أي شيء أصابكم ، وماذا حل بكم حتى اتخذتم شركاء هذه حالهم وصفتهم ، فجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا هادي لكم ولا لأحد منهم سواه ؟ كيف تحكمون بجواز عبادتهم ، وبما زعمتم من وساطتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه ؟ .
ومن القراءات اللفظية التي لا يختلف بها المعنى ، قراءة ( ( يهدي ) ) المشددة الدال بفتح الياء والهاء بنقل حركة التاء في أصلها ( يهتدي ) إلى الهاء وإدغامها فيها ، وقراءتها بكسرهما معا فالهاء لالتقاء الساكنين والياء لمناسبتها لها ، وقراءتها بفتح الياء وكسر الهاء لمناسبة الدال ، وهي قراءة
حفص التي عليها أهل بلادنا .
[ ص: 295 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=36وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28981قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) لَمْ يَعْطِفْ هَذَا الْأَمْرَ وَلَا مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ تَلْقِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَلَاغَةِ فِيهِ الْفَصْلُ كَأَمْثَالِهِ مِمَّا يُسْرَدُ سَرْدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ . أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ : هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعَ اللَّهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَهُ هَذَا الشَّأْنُ فِي الْكَوْنِ ، وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ فِي طَوْرٍ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي طَوْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَصْنَامِ الْمَنْصُوبَةِ ، أَوْ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهَا ، أَوْ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِمَّا لَا يُجِيبُونَ عَنْهُ كَمَا أَجَابُوا عَنْ أَسْئِلَةِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ - لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) فَأَدْمَجَ
nindex.php?page=treesubj&link=30336_28760إِثْبَاتَ الْبَعْثِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ ، فَإِنَّ الرَّبَّ الْقَادِرَ عَلَى بَدْءِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَتِهِ بِالْأَوْلَى ، عَلَى أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ هُوَ إِعَادَتُهُ تَعَالَى لِلْأَحْيَاءِ الْحَيَوَانِيَّةِ دُونَ مَا دُونَهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ ، فَهُمْ يُشَاهِدُونَ بَدْءَ خَلْقِ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَمَا يُصِيبُهَا مَاءُ الْمَطَرِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ ، وَمَوْتَهُ بِجَفَافِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ ثُمَّ إِعَادَتَهُ بِمِثْلِ مَا بَدَأَهُ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْبَدْءَ وَالْإِعَادَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ كُلًّا مِنْهُمَا ، فَهُمْ أَسْرَى الْحِسِّ وَالْعِيَانِ ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا أَحَدًا مِنْهُمْ حَيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَدْ فَقَدُوا الْعِلْمَ بِبُرْهَانِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّنَا لَا نَزَالُ نَرَى أَمْثَالًا لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّمُوا الْمَنْطِقَ وَطُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ . وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ
[ ص: 296 ] مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى جَهْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَيُنَبِّهَهُمْ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِهِمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=34فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي الْفِطْرَةِ وَخَاصَّةِ الْعَقْلِ فِي التَّفْكِيرِ ، لِلْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْمَصِيرِ ؟ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) ؟ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ شَأْنٍ آخَرَ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ ، الْمُقْتَضِيَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ ، وَتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ، وَهُوَ الْهِدَايَةُ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا حِكْمَةُ الْخَلْقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا عَقِبَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) ( 26 : 78 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( 20 : 50 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=2الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) ( 87 : 2 ، 3 ) وَهِيَ أَنْوَاعُ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ ، وَهِدَايَةِ الْحَوَّاسِ ، وَهِدَايَةِ الْعَقْلِ ، وَهِدَايَةِ التَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ ذَلِكَ ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ ، وَهُوَ لِلنَّوْعِ الْبَشَرِيِّ فِي جُمْلَتِهِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ الْمُوصِّلِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْغَايَةِ بِتَوْجِيهِ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَتَسْهِيلِ سَبِيلِهِ وَمَنْعِ الصَّوَارِفِ عَنْهُ . وَلَمَّا كَانَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِادِّعَاءِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ التَّشْرِيعِ ، لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) فِعْلُ الْهُدَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 1 : 6 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=2وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) ( 48 : 2 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( 29 : 69 ) وَيَتَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( 6 : 87 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( 5 : 16 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=2يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) ( 72 : 2 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=22وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) ( 38 : 22 ) وَبِاللَّامِ كَقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) ( 7 : 43 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( 17 : 9 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=17بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ) ( 49 : 17 ) فَتَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ تُفِيدُ اتِّصَالَ الْهِدَايَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مُبَاشَرَةً ، وَتَعْدِيَتُهُ بِــ ( ( اللَّامِ ) ) تُفِيدُ التَّقْوِيَةَ أَوِ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ ، وَبِـ ( ( إِلَى ) ) لِلْغَايَةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْهِدَايَةُ ، فَهِيَ تَشْمَلُ مُقَدِّمَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً إِلَى الْمُنْتَهَى الْمَقْصُودِ لِلْهَادِي السَّائِقِ إِلَيْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ مَجْهُولًا لِمُطِيعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=4كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) ( 22 : 4 ) وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الدَّقِيقَةِ الْعَالِيَةِ . وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفَيْنِ ، وَبَيْنَ تَرْكِ التَّعْدِيَةِ وَهُوَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ ، وَكُلٌّ مِنْهَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فَهَاكَهُ فَلَمْ نَرَ أَحَدًا بَيَّنَهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَقَدْ عَدَّاهُ بِإِلَى فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ ؛ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الْمُتَّخَذِينَ بِالْبَاطِلِ يَدُلُّ النَّاسَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَنْتَهِي سَالِكُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَهُوَ التَّشْرِيعُ ، فَهُوَ يَنْفِي الْمُقَدِّمَاتِ وَنَتَائِجَهَا ، وَالْأَسْبَابَ وَمُسَبِّبَاتِهَا ، وَلَوْ عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ لَمَا أَفَادَ
[ ص: 297 ] إِلَّا إِنْكَارَ هِدَايَةِ الْإِيصَالِ إِلَى الْحَقِّ بِالْفِعْلِ ، دُونَ هِدَايَةِ التَّشْرِيعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ ، وَلَوْ عَدَّاهُ بِاللَّامِ لَكَانَ بِمَعْنَى تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ أَوْ لِإِنْكَارِ هِدَايَةٍ يُقْصَدُ بِهَا الْحَقُّ إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ ، وَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى مَذْهَبِنَا الَّذِي اتَّبَعْنَا فِيهِ الْإِمَامَيْنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=16935وَابْنِ جَرِيرٍ ، يَكُونُ مَعْنَاهُ : قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِمَا هُوَ الْحَقُّ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : أَيْ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ) قَرَأَ ( يَهِدِّي ) يَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ لُغَةِ الْكَلِمَةِ ، وَقَرَأَهَا
حَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ كَيَرْمِي ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا نَصًّا وَاقْتِضَاءً : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِي لَهُ وَيَهْدِيهِ - وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيمَا يُشَرِّعُهُ ، أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ وَلَا هُوَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَا هَادِيَ غَيْرُهُ ؟ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مَنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ
الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِهِدَايَةِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ سُورَتِهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=73وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ( 21 : 73 ) وَقَالَ
النَّحَّاسُ : الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ ، كَمَا تَقُولُ : فُلَانٌ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْمَعَ ، فَمَعْنَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35إِلَّا أَنْ يُهْدَى ) لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُهْدَى انْتَهَى . فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ الَّتِي يَظْهَرُ لِلْمُدَقِّقِينَ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ بَدَائِعِهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ مَا فَاتَ أَسَاطِينَ بُلَغَاءِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا قَبْلَهُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي جَعْلِهِمْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُمْ مِنَ الْعَجْزِ الْمُطْلَقِ شُرَكَاءَ مَعَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، أَوْرَدَهُ بِاسْتِفْهَامَيْنِ تَقْرِيعِيَّيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ ، وَالْمَعْنَى : أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ ، وَمَاذَا حَلَّ بِكُمْ حَتَّى اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ هَذِهِ حَالُهُمْ وَصِفَتُهُمْ ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمُ الَّذِي لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُدَبِّرَ وَلَا هَادِيَ لَكُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سِوَاهُ ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهِمْ ، وَبِمَا زَعَمْتُمْ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ ؟ .
وَمِنَ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ بِهَا الْمَعْنَى ، قِرَاءَةُ ( ( يَهِدِّي ) ) الْمُشَدَّدَةِ الدَّالِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ التَّاءِ فِي أَصْلِهَا ( يَهْتَدِي ) إِلَى الْهَاءِ وَإِدْغَامِهَا فِيهَا ، وَقِرَاءَتِهَا بِكَسْرِهِمَا مَعًا فَالْهَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْيَاءُ لِمُنَاسَبَتِهَا لَهَا ، وَقِرَاءَتُهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ لِمُنَاسَبَةِ الدَّالِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
حَفْصٍ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ بِلَادِنَا .