وأما ورفع بعضهم درجات فذهب جماهير المفسرين إلى أن المراد به نبينا قوله - تعالى - : محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما رواه عن ابن جرير مجاهد وأيده .
وقال الأستاذ الإمام : إن الأسلوب يؤيده ويقتضيه ; أي لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل ، والتشنيع على اختلافهم واقتتالهم مع أن دينهم واحد في جوهره ، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون ، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ، ولعل ذكر آخرهم في الوسط للإشعار بكون شريعته وكذا أمته وسطا .
أقول : ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في نفسه الشريفة ، ومنها ما هو في كتابه وشريعته ، ومنها ما هو في أمته ، وآيات القرآن تنبئ بذلك كقوله - تعالى - في سورة القلم :
وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 : 4 ] وقوله - تعالى - في أواخر سورة الأنبياء بعد ما ذكر نعمه على أشهرهم وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 : 107 ] ولم يقل مثل هذا في أحد منهم .
وقوله في سورة سبأ : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ 34 : 28 ] وقال - تعالى - في فضل القرآن : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 : 9 ] الآيات . وقال فيها : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 : 88 ] وقال في سورة الزمر : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 : 23 ] الآية . وقال فيها : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 : 55 ] الآية . وقال : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ 16 : 89 ] وقال: [ ص: 6 ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 : 38 ] ووصفه بالحكيم وبالمجيد وبالعظيم وبالمبين وبالفرقان ، وحفظه من التحريف والتغيير والتبديل ، ووصف الشريعة بقوله - تعالى - في سورة الأعلى : ونيسرك لليسرى [ 87 : 8 ] وقال في أمته ، أي أمة الإجابة الذين اتبعوه حق الاتباع دون الذين لقبوا أنفسهم بلقب الإسلام ولم يهتدوا بهدي القرآن : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ 2 : 143 ] وقال فيها من سورة آل عمران : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ 3 : 110 ] ولو أردت استقصاء الآيات في وجوه درجاته - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لأتيت بكثير ، وهذا القليل لا يقال له قليل ، وفي الأحاديث من ذكر خصائصه ما أفرد بالتأليف وهي مما يصح أن تعد من درجاته ، وإنك لترى العلماء مع هذا كله لم يتفقوا على أنه المراد في الآية ، بل جوزوا أن يكون المراد بها إدريس - عليه السلام - لقوله - تعالى - في سورة مريم : ورفعناه مكانا عليا [ 19 : 57 ] على أن المكان ليس بمعنى الدرجات ، وجوز بعضهم أن يكون المراد بمعنى رفع الله درجات غير واحد من الرسل وهو بمعنى التفضيل المطلق في قوله : فضلنا بعضهم على بعض وجعل بعض المتأخرين حمل ورفع بعضهم درجات على نبينا - صلى الله عليه وسلم - من التفسير بالرأي ، وبالغ في التحذير منه ، وكيف يقبل هذا منه والآية جاءت بعد مطلق التفضيل بهذه الوجوه التي يمكن معرفتها بالدلائل على نحو ما قلنا ، وتفسير المبهم بالدليل ليس من التفسير بالرأي ، لا سيما إذا أيده السياق ورضي به الأسلوب ، إنما هو ما يكون من المقلدين ينتحلون مذهبا يجعلونه أصلا في الدين ، ثم يحاولون حمل الآيات عليه ، ولو بالتأويل والتحريف والأخذ ببعض الكتاب وترك بعض . التفسير بالرأي