المحافظة على الشيء : المداومة والمواظبة عليه ، والوسطى : تأنيث الأوسط ، وأوسط الشيء ووسطه : خياره .
ومنه قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] ، ومنه قول بعض العرب : يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا
ووسط فلان القوم يسطهم : أي صار في وسطهم ، وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفا لها .وقرأ أبو جعفر " والصلاة الوسطى " بالنصب على الإغراء ، وكذلك قرأ الحلواني ، وقرأ قالون عن نافع " الوصطى " بالصاد لمجاورة الطاء وهما لغتان : كالسراط والصراط .
وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولا أوردتها في شرحي للمنتقى ، وذكرت ما تمسكت به كل طائفة ، وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر ، لما ثبت عند البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث علي قال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا .
وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعا مثله .
وأخرجه أيضا ابن جرير وابن المنذر والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا .
وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعا .
وأخرجه أيضا البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعا .
وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعا .
وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : منها عن ابن عمر عند ابن منده ، ومنها عن سمرة عند أحمد وابن جرير والطبراني ، ومنها عنه أيضا عند ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه ابن جرير والطبراني والبيهقي ، وعن أبي هريرة عند ابن جرير والبيهقي والطحاوي .
وأخرجه عنه أيضا ابن سعيد والبزار وابن جرير والطبراني ، وعن ابن عباس عند البزار بأسانيد صحيحة ، وعن أبي مالك الأشعري عند ابن جرير والطبراني ، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصرحة بأنها العصر .
وقد روي عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كبيرة ، وفي الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره .
وأما ما روي عن علي وابن عباس أنهما قالا : إنها صلاة الصبح . كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما ، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس ، وكذلك أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر ، وكذلك أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر ، وكذلك أخرجه ابن جرير عن جابر ، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة ، وكل ذلك من أقوالهم وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتا [ ص: 165 ] يمكن أن يدعى فيه التواتر ، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين وتابعهم بالأولى ، وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال : صلاة الوسطى المغرب ، وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة أنها الظهر أو غيرها من الصلوات ، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر ، كما أخرجه ابن جرير عن زيد بن ثابت مرفوعا : أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر .
ولا يصح رفعه بل المروي عن زيد بن ثابت ذلك من قوله ، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه ، وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهكذا الاعتبار بما روي عن ابن عمر من قوله : إنها الظهر .
وكذلك ما روي عن عائشة وأبي سعيد الخدري وغيرهم ، فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما ما رواه عبد الرزاق وابن جرير وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها وقد أمرته أن يكتب لها مصحفا : إذا أتيت على هذه الآية حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فتعال حتى أمليها عليك ، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " .
وأخرجه أيضا عنها مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في سننه وزادوا : وقالت : أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج مالك وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي يونس مولى عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفا وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قال : فلما بلغتها آذنتها فأملت علي " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أم سلمة أنها أمرت من يكتب لها مصحفا ، وقالت له كما قالت حفصة وعائشة .
فغاية ما في هذه الروايات عن أمهات المؤمنين الثلاث رضي الله عنهن أنهن يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر أو غيرها ، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها ؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتا لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه .
فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاث بإثبات قوله : " وصلاة العصر " معارضة بما أخرجه ابن جرير عن عروة قال : كان في مصحف عائشة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر " .
وأخرج وكيع عن حميدة قالت : قرأت في مصحف عائشة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " .
وأخرج ابن أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب مثله .
وأخرج سعيد بن منصور وأبو عبيد عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن يكتب وقالت : إذا بلغتم حافظوا على الصلوات فلا تكتبوها حتى تؤذنوني ، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا قالت : اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر .
وأخرج ابن جرير والطحاوي والبيهقي عن عمرو بن رافع قال : كان مكتوبا في مصحف حفصة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر " .
وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " .
وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير والطحاوي عن ابن عباس أنه كان ليقرؤها " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " .
وأخرج المحاملي عن السائب بن يزيد أنه تلاها كذلك ، فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ونقل القراءة ، ويبقى ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التعيين ، صافيا عن شوب كدر المعارضة .
على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة .
فأخرج عبد بن حميد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن البراء بن عازب قال : نزلت " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر " فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله ثم نسخها الله ، فأنزل حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقيل له : إذن صلاة العصر ؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت وكيف نسخها الله . والله أعلم .
وأخرج البيهقي عنه من وجه آخر نحوه .
وإذا تقرر لك هذا وعرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء ، وبعض القائلين عول على أمر لا يعول عليه فقال : إنها صلاة كذا لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات ، وهذا الرأي المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تستند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ويالله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها ، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله والتحري على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى ، فجاءوا بما يضحك منه تارة ويبكى منه أخرى .
قوله : وقوموا لله قانتين القنوت ، قيل : هو الطاعة ، أي قوموا لله في صلاتكم طائعين ، قاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي ، وقيل : هو الخشوع ، قاله ابن عمر ومجاهد .
ومنه قول الشاعر :
قانتا لله يدعو ربه وعلى عمد من الناس اعتزل
وفي الحديث " أن [ ص: 166 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان " .
وقال قوم : إن القنوت طول القيام ، وقيل : معناه ساكتين ، قاله السدي ، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال : " كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية : وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت " ، وقيل : أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء ، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه .
وقد ذكر أهل العلم أن القنوت ثلاثة عشر معنى وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى ، والمتعين هاهنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور .
قوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الخوف هو الفزع ، والرجال جمع رجل أو راجل ، من قولهم : رجل الإنسان يرجل راجلا ; إذا عدم المركوب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل .
يقول أهل الحجاز : مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا .
حكاه ابن جرير الطبري وغيره .
لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات ، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل وحال الركوب ، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان .
وقد اختلف أهل العلم في حد الخوف المبيح لذلك والبحث مستوف في كتب الفروع .
قوله : فإذا أمنتم أي إذا زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة قائمين بجميع شروطها وأركانها وهو قوله : فاذكروا الله كما علمكم وقيل معنى الآية : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة ، وهو خلاف معنى الآية .
وقوله : كما علمكم أي مثل ما علمكم من الشرائع ما لم تكونوا تعلمون والكاف صفة لمصدر محذوف ، أي ذكرا كائنا كتعليمه إياكم ، أو مثل تعليمه إياكم .
وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن الصلاة الوسطى ؟ فقال : هي فيهن ، فحافظوا عليهن .
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت أنه سأله رجل عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات تدركها .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الربيع بن خيثم أن سائلا سأله عن الصلاة الوسطى ، قال : حافظ عليهن فإنك إن فعلت أصبتها ، إنما هي واحدة منهن .
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال : سئل شريح عن الصلاة الوسطى ، فقال : حافظوا عليها تصيبوها .
وقد قدمنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم في تعيينها .
وأخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى : وقوموا لله قانتين مثل ما قدمنا عن زيد بن أرقم .
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن محمد بن كعب نحوه أيضا .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة نحوه .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : وقوموا لله قانتين قال : مصلين .
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل أهل دين يقومون فيها عاصين ، قوموا أنتم مطيعين .
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك مثله .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : وقوموا لله قانتين قال : من القنوت الركوع والخشوع ، وطول الركوع يعني طول القيام وغض البصر وخفض الجناح والرهبة لله .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن في الصلاة لشغلا وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن .
وقد اختلفت الأحاديث في القنوت المصطلح عليه ، هل هو قبل الركوع أو بعده ، وهل هو في جميع الصلوات أو بعضها ، وهل هو مختص بالنوازل أم لا ؟ والراجح اختصاصه بالنوازل .
وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا قال : يصلي الراكب على دابته ، والراجل على رجليه فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون يعني كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته ، والراجل على رجليه .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : إذا كانت المسايفة فليوم برأسه حيث كان وجهه فذلك قوله : فرجالا أو ركبانا .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا قال : ركعة ركعة .
وأخرج وكيع وابن جرير عن مجاهد فإذا أمنتم قال : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة .


