قوله : كيف يهدي الله قوما هذا الاستفهام معناه الجحد ; أي : لا يهدي الله ، ونظيره قوله تعالى : كيف يكون للمشركين عهد عند الله [ التوبة : 71 ] أي : لا عهد لهم ، ومثله قول الشاعر :
كيف نومي على الفراش ولما تشمل الشام غارة شعواء
أي : لا نوم لي .ومعنى الآية : لا يهدي الله قوما إلى الحق كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا أن الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين جملة حالية ; أي : كيف يهدي المرتدين ، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ، ومنهم الباقون على الكفر ، ولا ريب أن ذنب المرتد أشد من ذنب من هو باق على الكفر ؛ لأن المرتد قد عرف الحق ثم أعرض عنادا وتمردا .
قوله [ ص: 230 ] أولئك إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة ، وهو مبتدأ خبره الجملة التي بعده . وقد تقدم تفسير اللعن .
قوله : ولا هم ينظرون معناه : يؤخرون ويمهلون . ثم استثنى التائبين . فقال إلا الذين تابوا من بعد ذلك ; أي : من بعد الارتداد وأصلحوا بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردة . وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصا ، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ .
قوله : ثم ازدادوا كفرا . قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم ، وقيل : ازدادوا كفرا بالذنوب التي اكتسبوها ، ورجحه ابن جرير الطبري وجعلها في اليهود خاصة . وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى : لن تقبل توبتهم [ التوبة : 7 ] مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى ، وكما في قوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ الشورى : 25 ] وغير ذلك ، فقيل : المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت .
قال النحاس : وهذا قول حسن كما قال تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [ النساء : 18 ] وبه قال الحسن وقتادة وعطاء ومنه الحديث إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، وقيل : المعنى لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ؛ لأن الكفر أحبط ، وقيل لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ، والأولى أن يحمل عدم قبولهم التوبة في هذه الآية على من مات كافرا غير تائب فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة ، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية . وهي قوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار في حكم البيان لها .
قوله : ملء الأرض ذهبا الملء بالكسر مقدار ما يملأ الشيء ، والملء بالفتح مصدر ملأت الشيء ، وذهبا تمييز ، قاله الفراء وغيره . وقال الكسائي : نصب على إضمار من ذهب . كقوله : أو عدل ذلك صياما [ المائدة : 95 ] أي من صيام . وقرأ الأعمش ذهب بالرفع على أنه بدل من ملء ، والواو في قوله : ولو افتدى به قيل : هي مقحمة زائدة ، والمعنى لو افتدى به ، وقيل : فيه حمل على الغني كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، وقيل : هو عطف على مقدر ; أي : لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب ; أي : بمثله .
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : " كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين ، ثم ندم فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله : غفور رحيم فأرسل إليه قومه فأسلم " . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه ، وقال : هو الحارث بن سويد .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن السدي نحوه ، وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس نحوه أيضا وقد روي عن جماعة نحوه أيضا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم قال : هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمدا ثم كفروا به . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وذكر نحو ما تقدم عنه . وأخرج البزار عن ابن عباس : أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا قال السيوطي : هذا خطأ من البزار . وأخرج ابن جرير عن الحسن في الآية قال : اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هم اليهود كفروا بالإنجيل وعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال : إنما نزلت في اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم ، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم ، ولكنهم على الضلالة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : ثم ازدادوا كفرا قال : نموا على كفرهم . وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : ثم ازدادوا كفرا قال : ماتوا وهم كفار لن تقبل توبتهم قال : إذا تاب عند موته لم تقبل توبته .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : لن تقبل توبتهم قال : تابعوا من الذنوب ولم يتوبوا من الأصل . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : وماتوا وهم كفار قال : هو كل كافر .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به فيقول : نعم ، فيقال له : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك ، فذلك قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار الآية .
				
						
						
