قوله : ياأيها الذين آمنوا جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين ; لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر ، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى .
قوله : لا تقربوا قال أهل اللغة : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه . والمراد هنا : النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها . وبه قال جماعة من المفسرين ، وإليه ذهب أبو حنيفة . وقال آخرون : المراد مواضع الصلاة ، وبه قال الشافعي : وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف ، ويقوي هذا قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل وقالت طائفة : المراد الصلاة ومواضعها معا ; لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين .
قوله : وأنتم سكارى الجملة في محل نصب على الحال ، وسكارى جمع سكران ، مثل كسالى جمع كسلان . وقرأ النخعي " سكرى " بفتح السين ، وهو تكسير سكران . وقرأ الأعمش " سكرى " كحبلى ، صفة مفردة . وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر ، إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم . وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال .
قوله : حتى تعلموا ما تقولون هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر ; أي : حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه ، فإن السكران لا يعلم ما يقوله وقد تمسك بهذا من قال : إن طلاق السكران لا يقع ؛ لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد . وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني ، واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس . وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي . واختلف قول الشافعي في ذلك . وقال مالك : يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع .
قوله : ولا جنبا عطف على محل الجملة الحالية ، وهي قوله : وأنتم سكارى والجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ; لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب . قال الفراء : يقال : جنب الرجل وأجنب من الجنابة ، وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ، مثل عنق وأعناق ، وطنب وأطناب .
وقوله : إلا عابري سبيل استثناء مفرغ ، أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل . والمراد به هنا السفر ، ويكون محل هذا الاستثناء المفرغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية ، وهي قوله : ولا جنبا لا بالحال الأولى ، وهي قوله : وأنتم سكارى فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر ، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم ، وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير والحكم وغيرهم ، قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمم ; لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر ، فإن الغالب أنه لا يعدم .
وقال ابن مسعود وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي : عابر السبيل هو المجتاز في المسجد ، وهو مروي عن ابن عباس ، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة : وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب ، وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي ، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر ، وإن معناه : أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم ، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء ، كما يكون في المسافر ، وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله : إلا عابري سبيل وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها ، وبالجملة فالحال الأولى ، أعني قوله : وأنتم سكارى تقوي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف ، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوي ذلك . وقوله : إلا عابري سبيل يقوي تقدير المضاف ; أي : لا تقربوا مواضع الصلاة .
ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني لا تقربوا وهو قوله : وأنتم سكارى يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي وهو قوله : إلا عابري سبيل يدل على أنه المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور . وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : الأولى قول من قال : ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فكان معلوما بذلك ; أي : أن قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : [ ص: 301 ] وإن كنتم مرضى أو على سفر معنى مفهوم .
وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك ، فإن كان ذلك كذلك فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . قال : والعابر السبيل : المجتاز مرا وقطعا ، يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ، ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ، ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار .
قال ابن كثير : وهذا الذي نصره - يعني ابن جرير - هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية انتهى . قوله : حتى تغتسلوا غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة . والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل . قوله : وإن كنتم مرضى المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ ، وهو على ضربين كثير ويسير . والمراد هنا : أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء ، أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء . وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات ، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . وقوله : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] وقوله : يريد الله بكم اليسر [ البقرة : 185 ] .
قوله : أو على سفر فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر ، والخلاف مبسوط في كتب الفقه ، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر ، وقال قوم : لا بد من ذلك . وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر . واختلفوا في الحاضر ، فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر .
وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف . قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط هو المكان المنخفض والمجيء منه كناية عن الحدث ، والجمع الغيطان والأغواط ، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا ، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء .
قوله : أو لامستم النساء قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ( لامستم ) وقرأ حمزة والكسائي ( لمستم ) قيل : المراد بها بما في القراءتين الجماع ، وقيل : المراد به مطلق المباشرة ، وقيل : إنه يجمع الأمرين جميعا . وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبلتم ونحوه ، ولمستم بمعنى : غشيتم .
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال ، فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع ، قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم ، بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء . وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود . قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار ، انتهى . وأيضا الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب .
وقالت طائفة : هو الجماع كما في قوله : ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ الأحزاب : 49 ] ، وقوله : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ البقرة : 237 ] وهو مروي عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان وأبي حنيفة . وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذ ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء ، وبه قال أحمد وإسحاق .
وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا . وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة . وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى : فلمسوه بأيديهم وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه ، وليس الأمر كذلك . فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية ، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع ، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ ( أو لمستم ) وهي محتملة بلا شك ولا شبهة . ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل . وهذا الحكم تعم به البلوى ويثبت به التكليف العام ، فلا يحل إثباته بمحتمل قد ، وقد وقع النزاع في مفهومه . وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء ، فكان الجنب داخلا في الآية بهذا الدليل ، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك .
وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال . وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين [ هود : 114 ] .
أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ ، قالوا : فأمره بالوضوء ; لأنه لمس المرأة ولم يجامعها ، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية ، إذ لا صلاة إلا بوضوء . وأيضا فالحديث منقطع ; لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه ، وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم ، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة ؛ لقصوره عن الحجة .
وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ . وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ، رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وما قيل [ ص: 302 ] من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة ، ورواه أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة ، ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة ، ورواه أيضا من حديث زينب السهمية .
ولفظ حديث أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءا . ولفظ حديث زينب السهمية : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ .
ورواه أحمد عن زينب السهمية عن عائشة . قوله : فلم تجدوا ماء هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط ، وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم ، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء ، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم ، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب ، وإن كان راجعا إلى الصورتين الأخيرتين : أعني قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال ، وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم ، وإن كان واجدا للماء قادرا على استعماله وقد قيل : إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأولين لندرة وقوعه فيهما .
وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد . وقال مالك ومن تابعه : ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر ، فإن الغالب وجوده ، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه انتهى .
والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم ، وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المآل ، ولا تعتبر خشية التلف ، فالله سبحانه يقول : يريد الله بكم اليسر [ البقرة : 185 ] ويقول : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الدين يسر . ويقول : يسروا ولا تعسروا ، وقال : قتلوه قتلهم الله ، ويقول : أمرت بالشريعة السمحة فإذا قلنا : إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره ، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره ، فإن في مجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب ; لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف . وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض .
قوله : فتيمموا التيمم لغة : القصد ، يقال : تيممت الشيء : قصدته ، وتيممت الصعيد : تعمدته ، وتيممته بسهمي ورمحي : قصدته دون من سواه ، وأنشد الخليل :
يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
وقال امرؤ القيس :تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها ظامي
وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي ، فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين ، وإنما هو معنى شرعي فقط ، وظاهر الأمر الوجوب ، وهو مجمع على ذلك . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، قوله : صعيدا الصعيد : وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن ، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج .
قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ الكهف : 8 ] أي : أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، وقال تعالى : فتصبح صعيدا زلقا [ الكهف : 40 ] وقال ذو الرمة :
كأنه بالضحى يرمي الصعيد به ونابه في عظام الرأس خرطوم
وقال الشافعي وأحمد وأصحابهما : إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : صعيدا زلقا [ الكهف : 40 ] أي : ترابا أملس طيبا ، وكذلك استدلوا بقوله : طيبا قالوا : والطيب التراب الذي ينبت . وقد تنوزع في معنى الطيب ، فقيل : الطاهر كما تقدم ، وقيل : المنبت كما هنا ، وقيل : الحلال .
والمحتمل لا تقوم به حجة ، ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز ؛ لكان الحق ما قاله الأولون ، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء وفي لفظ وجعل ترابها لنا طهورا فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية ، أو مخصص لعمومه ، أو مقيد لإطلاقه ، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل : تيمم الصعيد ; أي : أخذ من غباره انتهى ، والحجر الصلد لا غبار له .
قوله : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم [ ص: 303 ] هذا المسح مطلق يتناول المسح بضربة أو ضربتين ، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين ، وقد بينته السنة بيانا شافيا ، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين ، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين ، في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج فيه إلى غيره .
قوله : إن الله كان عفوا غفورا أي : عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم . وقد أخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) [ الكافرون : 1 ] ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه : أن الذي صلى بهم عبد الرحمن . وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد ، صنع لهم علي طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا ، ثم صلى بهم المغرب فقرأ قل ياأيها الكافرون حتى ختمها فقال : ليس لي دين وليس لكم دين ، فنزلت .
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه عن ابن عباس في هذه الآية قال : نسختها إنما الخمر والميسر الآية [ المائدة : 90 ] . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر إنما عني بها سكر النوم .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وأنتم سكارى قال : النعاس . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن علي . قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي . وفي لفظ قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم ويصلي حتى يجد الماء .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : لا يمر الجنب ولا الحائض في المسجد ، إنما أنزلت ولا جنبا إلا عابري سبيل للمسافر يتيمم ثم يصلي .
وأخرج الدارقطني والطبراني وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقته وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فقال : يا أسلع ، ما لي أراك راحلتك تغيرت ؟ قلت : يا رسول الله لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : ولم ؟ قلت : إني أصابني جنابة فخشيت القر على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا إلى قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل . وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال : كنت أخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرحل له ، فقال لي ذات ليلة : يا أسلع قم فأرحل لي . قلت : يا رسول الله أصابتني جنابة ، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد ، فقال : قم يا أسلع فتيمم الحديث .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس لا تقربوا الصلاة قال : المساجد . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق عطاء الخراساني عنه ولا جنبا إلا عابري سبيل قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر به مرا ولا تجلس .
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه . وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه ، ثم قرأ قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل . وأخرج البيهقي عن أنس نحوه . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن جابر قال : كان أحدنا يمر في المسجد وهو جنب مجتازا . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : وإن كنتم مرضى قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : وإن كنتم مرضى قال : هو الرجل المجدور أو به الجراح أو القرح يجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فيتيمم .
وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي ، قال : نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جراح ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت وإن كنتم مرضى الآية . وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله : أو لامستم النساء قال : اللمس ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه الوضوء . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويقول : هي اللماس . وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم عن عمر قال : إن القبلة من اللمس فتوضأ منها . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي قال : اللمس هو الجماع ولكن الله كنى عنه . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد [ ص: 304 ] وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : كنا في حجرة ابن عباس ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي ، وعبيد بن عمير ونفر من العرب فتذاكرنا للماس ، فقلت أنا وعطاء والموالي : اللمس باليد ، وقال عبيد بن عمير والعرب : هو الجماع ، فدخلت على ابن عباس فأخبرته فقال : غلبت الموالي ، وأصابت العرب ، ثم قال : إن اللمس والمس والمباشرة إلى الجماع ما هو ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إن أطيب الصعيد أرض الحرث .


